منذ تم تكليف الدكتور احمد نظيف بتشكيل الوزارة الجديدة كثر الحديث عن الحكومة الإليكترونية وبدء الجميع في العزف على لحن الحكومة الاليكترونية التي ستنقل الإدارة الحكومية من عصر الملفات والأضابير وورق الكربون إلي عصر الكمبيوتر والديجيتال ( النظام الرقمي ).ورغم أهمية اللحاق بروح العصر وتطوير الإدارة الحكومية إلا أنه توجد مقومات لازالت مفتقدة في مصر فالحديث عن التطوير من خلال إضافة الأجهزة فقط هو حل جزئي ومسكن سيضيع مفعولة بعد فترة وجيزة. لقد سبق أن رفعت مصر شعارات الثورة الإدارية والإصلاح الإداري وتطوير الإدارة الحكومية والقضاء على البيروقراطية وتبسيط الإجراءات الجماهيرية وأخيراً أكشاك خدمة المواطنين وكلها حلول جزئية لم يكتب لها النجاح والاستمرار وانتهت بعزل من رفعوا هذه الشعارات أو نسيانهم لها في زحمة الروتين المتوالي. لذلك أجد من الضروري البحث عن المقومات اللازمة لنجاح أي تطوير للإدارة الحكومية في مصر ومن أهمها:
ـ أن يتم وضع استراتيجية متكاملة للإصلاح الإداري تشمل تطوير شامل للإدارة الحكومية من خلال تشكيل مجلس أعلي للإصلاح الإداري يتولى إعداد الدراسات اللازمة ويفضل أن يكون برئاسة رئيس الجمهورية حتي تكون لديه القوة على تنفيذ توصيات دراساته ومواجهة نفوذ بعض الوزراء الذين سيرفضون التغيير وقد يعجز رئيس الوزراء عن مواجهتهم بينما الأمر يحتاج إلى قوة اكبر من اجل إصلاح شامل وجذري للإدارة الحكومية.
ـ إن التطوير الشامل يبدء بتطوير التشريعات والقرارات التي تحكم عمل الجهاز الإداري ، فكثير من التعقيدات الروتينية التي تعطل العمل ناتجة عن بعض مواد التشريعات المنظمة للخدمات . لذلك لا يمكن الحديث عن حكومة اليكترونية قبل قيام كل وزارة بدراسة كافة القوانين والأنظمة والقرارات التنفيذية والتي يعود بعضها لما قبل 1952 وبعضها مضى على صدوره أكثر من ربع قرن وأصبحت كثير من مواده تحتاج إلى تعديل .لذلك لا يمكن أن نتحدث عن حكومة اليكترونية قبل تطوير وتعديل كافة التشريعات والقرارات الحاكمة للعمل الحكومي.
ـ أن تتم إعادة تنظيم شامل للجهاز الإداري للدولة يضع في اعتباره الأهداف التي تسعى لتحقيقها استراتيجية الإصلاح الشامل ووضع البرامج التنفيذية لذلك وإعادة تنظيم الجهاز الإداري بما يحقق هذه الأهداف ، فلا يصح أن تطرأ فكرة على رأس مسئول فيلغى وزارة أو يستحدث وزارة أو يدمج وزارات لأن ذلك لايمكن أن يحدث في بلد ديمقراطي ولكنه يحدث في ظل حكم قرقوش وخلفائه المتواليين على حكم مصر المحروسة .
بدون مقدمات تم إلغاء وزارة الاقتصاد وتحويلها إلى وزارة التجارة الخارجية ثم تم دمج وزارتي الصناعة والتجارة في وزارة واحدة وهذه التغييرات لا بد أن تعكس رؤية وتوجهات تنموية لا نعرف عنها شئ سوى أنها خاضعة لمزاج القيادة السياسية بغض النظر عن مصالح الوطن والمواطنين ، وبعد ذلك يريدونها اليكترونية بينما الأفضل أن تكون مهلبية أو ملوخية فهي مسميات أقرب لما يحدث من تغييرات غير مدروسة ومتسرعة . وبنفس الطريقة تم استحداث وزارة للاستثمار ؟!!!
ـ بررت الحكومة استحداث وزارة الاستثمار بالرغبة في جذب الاستثمارات الخارجية وتذليل العقبات أمام الاستثمار المحلي وهو" كلام جميل وكلام معقول مقدرش أقول حاجة عنه "وكان من الممكن أن نصدقه لو لم نتابع تراجع الاستثمار الأجنبي خلال العشر سنوات الأخيرة بسبب الفساد الذي يضرب بجذوره في الدولة المصرية من أعلى رأسها حتى أصغر ساعي لدى أصغر مسئول في مصر فأي وزير مهما أوتى من قوة لايستطيع أن يفعل شئ تجاه ذلك وليراجع الدكتور محمود محي الدين وضع مصر ضمن مقاييس الشفافية والفساد قبل أن يبدء محاضرته عن جذب الاستثمارات.
إضافة إلى ارتفاع سعر ضرائب الدخل وعدم وضوح النظام الضريبي وتعدد الضرائب غير المباشرة وإهدار الدفاتر المنتظمة للمنشآت وارتفاع الضرائب الجمركية. ماذا سيفعل وزير الاستثمار تجاه كثرة الرسوم و الضرائب و ما تتضمنه من أعباء مالية و إجراءات و إهدار للوقـت و أموال مجمدة للتسويات إضافة إلى كل المعاملات السابق إيضاحها في الهيئات الحكومية المختلفة. تتعدد الأعباء التي يتحملها القطاع الصناعي علي سبيل المثال ومنها:
ـ الرسوم الجمركية على الخامات و المستــلزمات .
ـ ضرائب المبيعات على الخامات الداخلة في الإنتاج و على السـلع الرأسمالية ( الأصول الثابتة ) .
ـ ضرائب الدخل .
ـ ضريبة رؤوس الأموال المنقولة و نسبتها 32 % .
ـ ضريبة النشاط التجاري و الصناعي و نسبتها 40 % .
ـ ضريبة المرتبات و الأجور و ما في حكـمها و نسبتها 20 % .
ـ ضريبة رسم تنمية موارد الدولة و تبدأ من 2 % حتى 5 % .
ـ ضرائب الدمغة طبقاً للقانون 111 لسنة 1980 و تعديلاته فالأوعية الخاضعة لضريبة الدمغة تتضمن الدمغة المسددة على فواتير المشتريات و أوامر التـــوريد و المصروفات ، و الدمغة المسددة على توقيعات الأجور و إيصالات الاســتلام ، و الدمغة المسددة على الدعاية و الإعلان .
ـ الضريبة النسبية على الكمبيالات و تبدأ بـ 4 بالألف و حتى 12 بالألف .
ـ الدمغة النسبية على صرفيات الجهات الحكومية و هي ضريبة أصلية و إضافية و هي في حدود 9 % .
ـ رسم تنمية موارد الدولة بالقانون رقم 147 لسنة 1984 و تعديلاته .
ـ الضرائب و الرسوم الخاصة بالمحليات و السجل الصناعي والضريبة العقارية و هي بواقع 40 % من القيمة الإيجازية
ـ رسوم التسجيل للعقود مقابل الرهون المختلفة و نسبتها 8 بالألف.
ـ رسوم الترخيص لتشغيل المجال الصناعي و رسوم التفتيش السنوي على المحلات الصناعية و رسوم السجل الصناعي .
فأي مستثمر مصري أو أجنبي يقبل الخضوع لكل هذه الضرائب ؟! ولكي يحصل المستثمر الصناعي على التراخيص فإنه سيقابل بسيل من جهات التفتيش التي يتعامل معها مثل وزارات الصحة ، الصناعة ، التموين ، الزراعة ، التجارة الخارجية ، البيئة ، المالية ، الداخليــة ، الإسكان ، العمل ، التنمية المحلية ، التأمينات الاجتماعية ، هيئة الطاقة الذرية .
فماذا يمكن أن يفعل وزير الاستثمار تجاه ذلك ، وهل تعبئة النماذج والحصول على الموافقات عبر الحاسب الآلي سيمنع عن المستثمر هذه الضرائب المتنوعة وجهات التفتيش المتوالية وأصحاب الأيادي المدودة والمدعمين بخبرة سبعة ألاف سنة فساد من عهد مينا موحد القطرين إلى عهد كمال الشاذلي صاحب الوزارتين في الحكومة السابقة.
ـ يتم نقل تبعية العديد من الهيئات والمصالح الحكومية بين الوزارات تبعاً لقوة كل وزير بعيداً عن المصلحة العامة بهذا الأسلوب تم نقل تبعية بنك الاستثمار القومي من وزارة التخطيط إلى وزارة المالية ، وبنفس المنطق تم نقل تبعية هيئة سوق المال وشركات التأمين إلى وزير الاستثمار بغض النظر عن أهداف الوزارة الجديدة ومدى التكامل العام ضمن المنظومة الحكومية ، إنها الحكومة المهلبية وليست الإليكترونية . فتبعية المصالح والهيئات تخضع للنفوذ السياسي ورضا الباب العالي عن الوزير.
وإذا كان الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة هو المنوط به مهمة تنظيم الإدارة الحكومية ونتابع تطور تبعية الجهاز منذ إنشائه وحتى الآن لنعرف كيف تعاملت معه الحكومات المختلفة وكيف كان دوره وسلطاته تتمدد وتنكمش تبعاً للمزاج وليس تبعاً لتحقيق هدف محدد وتقلص دوره حتى أصبح تابع لوزير الدولة للتنمية الإدارية في وزارة الدكتور محمد زكي أبو عامر وأعاد إلينا ذلك تقلص دور الجهاز وانحطاط نفوذه عندما كان تابعاً لوزارة المالية في منتصف السبعينات خلال وزارة الدكتور عبد العزيز حجازي فدور الجهاز ومهامه تتغير وفق المزاج بعيداً عن دوره الحقيقي المطلوب من واقع قرار إنشائه ووفق استراتيجية تطوير الإدارة الحكومية.
ـ ضرورة إجراء تطوير جذري للمحليات وإعطاء مزيد من الصلاحيات للحكم المحلي بما يخفف من قيود المركزية ويزيد من سلطات المحليات مع ضرورة انتخاب المحافظين وإعطاء سلطات تشريعية للمجالس المحلية كل في نطاق محافظته.ولابد أن يتم ذلك في إطار استراتيجية التطوير الشامل التي يجب أن تضع في اعتبارها التصدي للفساد المنتشر في المحليات والذي وصفه رئيس ديوان رئيس الجمهورية "بأنه وصل للركب " وهو ما يتطلب مواجهته ضمن خطة شاملة للتطوير الإداري.
ـ لدينا أكاديمية للإدارة والعديد من الكليات التي تدرس الإدارة والتي أعدت الآلف الدراسات والرسائل الجامعية حول تطوير الإدارة الحكومية ، ولدينا خبراء دوليين مفخرة لكل المصريين مثل الأساتذة الدكتور على السلمي والدكتور سيد الهواري والدكتور على عبد الوهاب والعشرات من خيرة أساتذة الإدارة الذين تركوا بصمات على الإدارة العربية ولكنهم مبعدين عن المشاركة في أي خطط للإصلاح لأن السيادة للعملة الرديئة لا للعملة الجيدة بحسب قانون جريشام.
ـ إننا بحاجة لتغيير الثقافة الإدارية السائدة بالجهاز الحكومي من القاعدة إلى القمة والتحول إلى الإدارة بالمشاركة والاقتناع والترقية للمتميزين والمبدعين لا للكسالى والمحاسيب والحبايب . نريد موظف مبدع ومسئول قادر على اتخاذ القرار وتحمل تبعاته فهل ستحل المشكلة باستخدام الموظف للحاسب الآلي ؟!!!!
لقد عشنا عصر يفاخر فيه رئيس الوزراء بأنه سكرتير للسيد الرئيس ، ولا نجد وزير يصرح للإعلام إلا ويبدأ "ببناء على توجيهات السيد الرئيس" ، إذا كان هذا هو حال الوزراء فما بالنا بالمستويات الإدارية الأدنى ، ألا يستدعى ذلك تطوير الثقافة الإدارية وإطلاق حرية الإبداع وترقية المتميزين !!!
لقد أضحكني تصريح للوزير الجديد بأنه طلب من كل رئيس شركة تسمية ثلاثة أشخاص يصلحون لخلافته إذا ترك منصبه وهو يعتبر ذلك خلق لأجيال جديدة ، فأي منطق هذا ، إذا كان رئيس الوزراء يعمل بناء على توجيهات السيد الرئيس . أي صف ثاني وثالث يمكن أن ينشئ في بيئة إدارية فاسدة ومتعفنة وفى ظل استبداد إداري شعاره ( أربط الحمار مطرح ما يقول صاحبه، والباب اللي يجيلك منه الريح ).
إننا بحاجة إلى موظف يربط الحمار في المكان الصحيح ، ويستفيد من الريح ويواجهها دون أن يسد الباب ، عندها يمكن أن نكون مؤهلين للحكومة الإليكترونية.
ـ لقد شاب اتفاقات وزارة الاتصالات خلال الفترة السابقة الكثير من التجاوزات سواء في الاتفاق الذي تم إبرامه مع شركة مايكروسوفت أو من خلال مشروع كمبيوتر لكل بيت ، ولقد كتبت عشرات الدراسات والمقالات حول الثغرات الأمنية في الشبكات التي تخضع لنظام ميكروسوفت وهي قضية تتعلق بالأمن القومي المصري ولا يجب التهاون معها أو التعامل باستخفاف بل يجب أن تخضع لدراسات متعمقة حتى لا نضع قاعدة بيانات الحكومة المصرية كاملة عرضة للاختراق نتيجة الثغرات الموجودة في النظام الذي تطبقه الحكومة على الشبكة. إننا نملك الكوادر والخبرات التي يجب الاستفادة منها في تحقيق أفضل توظيف وأعلى درجات الأمان لشبكة المعلومات ضمن خطة تطوير الإدارة الحكومية.
لقد خرج الكثير من كوادر الجهاز الحكومي وشركات القطاع العام إلى شركات القطاع الخاص والاستثماري محملين بكل أمراض الأداء الحكومي فكانوا ضمن عوامل التعثر والانهيارات المتعددة في القطاع الخاص، ولقد أثبتت التجارب المحلية والدولية أن الإدارة الحكومية هي القاطرة الرئيسية للتطوير والتحديث في كافة قطاعات المجتمع ، وان إصلاح الإدارة الحكومية سيمتد ليشمل كافة قطاعات المجتمع.
إننا لا نريد أن يتحول شعار الحكومة الإليكترونية إلى مجرد طبل أجوف لا معني له ، ولكننا نريد تطوير حقيقي واستراتيجية واضحة للإصلاح الإداري وثورة تشريعية وإعادة بناء ثقافة الموظف العام وديمقراطية الإدارة قبل أي تفكير في التطوير الإليكتروني نريد توفير المقومات ووضوح الرؤية.فالبشر هم الثروة الحقيقية وليست الأجهزة .فهل تملك الحكومة رؤية شاملة للتطوير أم ستستمر في نظام المسكنات مثل الحكومات السابقة ؟!! ذلك هو ما ستوضحه لنا الأيام القادمة.