والشكل الذي يبدو أن هذا الكيان سيتخذه بلورته ملامح تقرير صهيوني شديد الأهمية أفضل قبل عرض محتواه التعرض للسياق الدولي الذي يطرح فيه المشروع، فرغم أن قراءات متسرعة للتقرير ربطت بشكل آلي بين الطموح الذي يعبر عنه وبين الحرب على العراق فإن هذا الطموح على الأرجح يستند إلى ظرف دولي أكبر حجما وسيكون خلال السنوات القليلة القادمة أعمق تأثيرا وهو الصعود الإنجلوسكسوني المشهود وتبلور ملامح حلف دولي جديد من الدول الإنجلوسكسونية البروتستتنتية يضم بالأساس الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا. واستنادا لمقولة "القيم المشتركة" بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة يرى ساسة الكيان الصهيوني أنهم أمام فرصة تاريخية لأن يكون الكيان عضوا فاعلا في حلف سياسي ربما أصبح القاطرة التي تحدد مسار السياسة الدولية مستخدما حلف الناتو كأداة عسكرية.
والصعود المشهود للتحالف الإنجلو سكسوني بدأت بعض مراكز البحوث الأمريكية مؤخرا توليه المزيد من الاهتمام، فعلى سبيل المثال يصف الكاتب الأمريكي جيم مان (كاتب رئيس لدى المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والدولية بالولايات المتحدة الأمريكية) هذه الحالة في مقال نشره قبل حرب العراق بقليل بقوله: "شيئاً فشيئاً بدأت تسيطر على الولايات المتحدة في غضون الأشهر القليلة الماضية فكرة على درجة من الغرابة في إطار البحث عن أساس جديد يمكن أن تبنى عليه السياسة الخارجية الأميركية وحتى تنجلي هذه الفكرة فلنسمها الوهم الأنجلوفوني". وما يربط أركان التحالف الجديد ليس اللغة الإنجليزية وحسب بل الثقافة الإنجلوسكسونية التي حمل بذورها المهاجرون إلى ما سمي "العالم الجديد". وحسب توني بلير: "نتفق مع الأميركيين في الكثير من وجهات النظر لتطابق ذلك مع المصالح الوطنية لبريطانيا، كما أن تأملاتنا وأحاسيسنا متطابقة كما هو تطابق قناعاتنا بحتمية اتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهة القضايا العالقة"، وهو بذلك يعلل وقوف بلاده إلى جانب الولايات المتحدة بضمانه نفوذاً واسعاً في المسرح السياسي الدولي ما ينعكس بشكل إيجابي على الميدانين السياسي والاقتصادي للمملكة المتحدة.
وما شهدته الحرب على العراق من تباعد في المواقف بين الولايات المتحدة والقوى الكبرى في أوروبا نتاج مزيج من اختلاف المصالح والإحساس المتزايد بالاختلاف، ومن المؤكد أن زوال التهديد السوفيتي قد دشن مناخا جديدا إذ قلص على نحو ملموس إحساس الولايات المتحدة وأوروبا بوجود خطر يتوجب معه نسيان الاختلافات، ما أحدث تغييرا في الواقع الدولي يشبه إلى حد ما اكتشاف الأمريكتين. فلقد كانت بريطانيا قبل هذا الاكتشاف تشعر أنها معزولة عن اليابس القاري الأوروبي وجعلها هذا الاكتشاف في قلب منظومة المواصلات الجديدة بين العالمين القديم والجديد ، وبالمثل لم تعد الولايات المتحدة تشعر أنها مشدودة إلى القارة الأوروبية.
وتشير دراسات عديدة خلال السنوات القليلة الماضية، وبالتحديد منذ عهد ريجان إلى حضور متزايد للدين على الساحة السياسية الأمريكية، وبصفة عامة تتسم الثقافة الأمريكية - ربما بقدر أكبر من الثقافة البريطانية - بتأثير ملموس للأفكار ذات الأصول الدينية الأمر الذي يجعل للمذهب البروتستانتي الذي يجمعها بحلفائها الإنجلوسكسون دورا في تفضيل التعامل مع قوى دون أخرى، وكل صعود لدور الدين في السياسة الخارجية الأمريكية يعزز علاقتها بالكيان الصهيوني، ليس فقط لأنه قادر على تسويق نفسه أمريكيا بوصفه الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بل بوصفه حقيقة من الحقائق الرئيسة في الثقافة الإنجلوسكسونية البروتستنتية التي تشكل تربة خصبة لنمو الأفكار الصهيونية، وتلك معضلة ينبغي أخذها في الاعتبار عربيا.
وعلى أطراف هذا التحالف تقف هولندا تتمايز عرقيا ولغويا عن الولايات المتحدة وحلفائها وإن بقي أثر البعد البروتستنتي في ثقافتها مؤثرا في سياستها، وقد بثت القناة الثالثة في التلفزيون الهولندي في أكتوبر 2003 فيلما وثائقيا بعنوان "الصمت حيال إسرائيل" تطرق لأول مرة لموضوع العلاقة الحميمة التي تربط هولندا بالكيان الصهيوني والانحياز الكبير الذي عُرفت به النخبة السياسية والإعلامية الهولندية للدولة العبرية طيلة النصف الأخير من القرن الماضي. واستضاف البرنامج عددا من السياسيين والصحفيين والناشطين البارزين -يمثلون الجانبين الهولندي والصهيوني - قدموا شهادات شديدة الأهمية حول العلاقة الوثيقة التي ربطت أجهزة الدولة الهولندية بنظيرتها الصهيونية والدور الذي تلعبه الجالية اليهودية وبعض المنظمات التابعة للوبي الصهيوني للحفاظ على مصالح الكيان الصهيوني في هولندا.
وقد اتسمت السياسة الهولندية منذ إنشاء الكيان الصهيوني بالانحياز الكامل له ومساعدته ماليا وسياسيا في جميع حروبه ضد الدول العربية، والإعراب باستمرار في المحافل والمنتديات الدولية - وضمن ذلك الأمم المتحدة - عن الدعم الكامل لموقفه. واعترف وزيرا الخارجية الهولنديان السابقان هانس فان ميرلو وهانس فان دن بروك، خلال البرنامج بأن مؤسسات وزارة الخارجية الهولندية وممثلياتها في الخارج تلقت دوما - خصوصا إبان الحروب والأزمات - أوامر تشدد على ضرورة مساندة الكيان الصهيوني. بل إن هانس فريلينخ وزير الدفاع الهولندي الأسبق فجر قنبلة عندما قال: "إن القوات الهولندية تلقت الأوامر إبان حرب أكتوبر 1973 بأن تكون في حالة استنفار قصوى لمساعدة القوات الكيان الصهيوني في حال احتاج إلى ذلك". وتضمن البرنامج الوثائقي مقتطفات من لقاء كان التلفزيون الهولندي قد أجراه مع جولدا مائير بعد حرب 1973 وهي توجه الشكر للهولنديين وللدولة الهولندية لوقوفهم مع الكيان الصهيوني في لحظات عصيبة مرت به.
وقرار دولة غربية تدار بشكل رشيد بأن تجعل قواتها في حالة تأهب لاحتمال التدخل في نزاع عسكري يدور بعيدا عنها في ظل ظروف دولية معقدة يفترض أن تحكمه اعتبارات "نفعية" رشيدة بالمعايير الغربية، والإطار الوحيد الذي يمكن من خلاله تفسير الموقف الهولندي الرسمي هو النظر للهوية بوصفها أحد مقومات الوجود ومن ثم فيجب التصرف وفقا لمقتضياتها حتى لو على حساب المصالح بمعناها المعروف. فسياسة التدخل العسكري خارج الحدود خرجت من القاموس السياسي الهولندي قبل حرب أكتوبر بقرون ومنذ أن ورثت قوى أوروبية أخرى معظم مواطن النفوذ الهولندي عبر البحار وهي لا تخوض خروبا خارج حدودها على الإطلاق، وبالتالي فنحن أمام "لحظة كاشفة" بالمعنى الحرفي للكلمة.
وأما استراليا الجناح الشرقي للحلف فشهدت في نوفمبر من العام الماضي مشهدا جديرا بالتوقف عندما ذهبت إليها النائبة الفلسطينية حنان عشراوي بمناسبة تسليمها "جائزة سيدني للسلام" إذ تعرضت لحملة وصفتها بأنها "أسوأ من هجمات الإسرائيليين"، ورغم أن الجالية اليهودية باستراليا مارست ضغوطا قوية لمنع منحها الجائزة إلا أن دهشة عشراوي التي يعكسها قولها: "لا أعرف سبب وجود مشاعر معادية إلى هذه الدرجة في استراليا" !! تظل مبررة لأنها لم ترها في سياقها الصحيح.
ومن الثوابت التي طرأت على السياسة الاسترالية في سياق التقارب مع أركان الحلف الجديد تأكيدها في النصف الثاني من التسعينات أولوية التحالف العسكري مع أمريكا، ففي يوليو 1996، تم بشدة تأكيد هذا التحالف وبدأت محادثات دفاعية سنوية وصدر إعلان للتعاون "إعلان سيدنى" وقرر الجانبان إجراء أكبر مناورة عسكرية مشتركة بين البلدين منذ الحرب العالمية الثانية (مارس 1997). كل هذه الترتيبات جعلت التعاون العسكري يأخذ شكلا شاملا وحلت استراليا محل القواعد العسكرية الأمريكية فى الفلبين التي تم إغلاقها تماما، كما سمحت استراليا بإقامة قاعدة للمخابرات الأمريكية في أراضيها ثم وقع اتفاق تأجير جديد لعشر سنوات يسمح لأمريكا باستخدام قاعدة المخابرات في باين جاب باستراليا ذات الأهمية الكبيرة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية الكونية .
وبجانب الروابط العسكرية بين استراليا والولايات المتحدة، أيدت استراليا بصورة كاملة سلسلة من السياسات والإجراءات العسكرية الأمريكية في العالم وهو أمر نادراً ما كان يحدث. ولم تهتم استراليا بتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة في مجالات التعاون العسكري وحسب بل أكدت أيضا توافقها معها في القيم والنظم السياسية والقانونية، وهو ما كان مقدمة لإعادة صياغة الدور الإقليمي والدولي لاستراليا كليا في إطار تأكيد أولوية الهوية، وهي تبذل جهودها لكي تتوافق رؤيتها مع رؤية الولايات المتحدة في كثير من المشكلات العالمية.
كان التحالف مع الأقوياء دائما أفضل الوسائل في نظر الصهاينة لتحقيق طموحاتهم السياسية ومن هنا تأتي أهمية قراءة هذه الوثيقة في ضوء حقيقة الصعود الإنجلوفوني الكبير، وهو من هذه الناحية يعد ظهيرا مؤكدا للكيان الصهيوني بسبب الميراث الثقافي المشترك الذي تشكل الصهيونية بصيغتيها المسيحية واليهودية أحد أهم دعائمه، ولعل هذا يفسر الاستخفاف المتصاعد من جانب الكيان الصهيوني بالمواقف الأوروبية الأقل انحيازا للأجندة الصهيونية.
التقرير الذي وصفته صحافة الكيان الصهيوني بأنه "الأول من نوعه" يحمل عنوان: "حال الشعب اليهودي عام 2004" وأعده "معهد تخطيط سياسات الشعب اليهودي"، وهو هيئة أنشأتها الوكالة اليهودية، ورأس طاقم الأبحاث الذي أعده البروفيسور سيرجيو دي لا فيرغولا (خبير في الديموغرافية اليهودية وأستاذ في الجامعة العبرية في القدس) وقبله كان يرأسه الجنرال عاموس غلبواع (الرئيس السابق لوحدة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية). وما نشر ليس إلا ملخصا لمحتوى التقرير الذي يبلغ حجمه كاملا 600 صفحة وسيتم نشره في الخريف القادم. ويتضمن التقرير معطيات حول عدد من القضايا المتعلقة بيهود العالم وبخاصة انتشارهم جغرافيا وتكاثرهم بنسب ضئيلة ومدى انصهارهم في مجتمعاتهم.
ومن أهم ما ورد في التقرير أن: "القضية المصيرية الأكثر إلحاحا التي تواجه اليوم الشعب اليهودي عامة، وليس في دولة إسرائيل فحسب، تكمن في تحديد السياسة حيال قضية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. إذ يهدد الصراع رفاهية إسرائيل؛ ويتم استغلاله في الحلبة الدولية لانتزاع الشرعية لفكرة السيادة اليهودي، وقد تحول إلى أداة لمهاجمة مؤيدي إسرائيل اليهود" و يجب "اعتبار اليهود في إسرائيل وفي العالم على انهم جسم واحد، خلافا للفصل بين يهود إسرائيل ويهود العالم القائم حتى الآن".
المعطيات الديموجرافية الواردة فيه تشير إلى أن 92% من يهود العالم يسكنون في 20% من دول العالم تعتبر الأغنى والأكثر تطورا، لكن نسبة التكاثر السكاني بينهم ضئيلة جدا فبينما ازداد سكان العالم، خصوصا في الدول الفقيرة، بنسبة 70% بين عامي1970- 2003، ازداد عدد اليهود خلال هذه السنوات بنسبة2% فقط. كما يشير التقرير إلى معطيات حول الزواج المختلط لليهود في دول العالم. وتشير الإحصاءات أن أعلى نسبة للزواج المختلط بين اليهود هي في: روسيا وأوكراينا 80% ، المانيا والنمسا60%، الولايات المتحدة 54%، فرنسا وبريطانيا والارجنتين 45%، كندا 35%، استراليا 22%، جنوب أفريقيا 20% والمكسيك 10%. أما في إسرائيل فان نسبة الزواج المختلط 5% . ورصد التقرير علاقة مباشرة بين الزواج المختلط والدراسة في المدارس اليهودية وبين كلما كان عدد الأولاد اليهود الذين يتعلمون في المدارس اليهودية أكثر كلما كانت نسبة الزواج المختلط أقل.
وبناء على المعطيات السابقة يطرح البروفيسور دي لا فيرغولا صيغة للعلاقة بين الكيان الصهيوني ويهود العالم قائلا إنه: "على ضوء الاعتراف بعلاقة كافة اليهود في العالم بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني فإنه يتوجب إشراك ممثلي كافة جاليات الشعب اليهودي (في العالم) في حسم قضية الصراع، برغم أن اتخاذ القرارات الفعلية حق حصري لإسرائيل". وهو يوسع دائرة الشراكة مطالبا بإشراك ممثلي اليهود في العالم ليس فيما يتعلق بالصراع فحسب أن تأخذ كل قرارات حكومة الكيان بالحسبان انعكاساتها على اليهود في العالم. "ويتضمن ذلك قرارات الحكومة الإسرائيلية المتعلقة بالقضايا الأمنية الآنية، مثل عملية اغتيال الشيخ (أحمد) ياسين. ولا يعني الاكتراث باليهود في العالم إلغاء احتياجات إسرائيل لكن الأخذ بالحسبان على الأقل انعكاسات ذلك على اليهود في العالم وان يتم اتخاذ الحيطة" بما يتلاءم مع السياسة التي تقررها الحكومة الإسرائيلية.
وللفكرة التي يطرحها التقرير جذور تاريخية تعود لنشأة الكيان الصهيوني حيث دارت صراعات متعاقبة حاولت فيها منظمات صهيونية عديدة رفض مساعي الكيان الصهيوني لأن يبتلع الحركة الصهيونية في العالم أجمع من خلال فرض منطق المركز والأطراف على أعضاء الجاليات اليهودية في العالم كله، ومؤخرا اقترح الوزير نتان شرانسكي إقامة"سينات يهودي" يمثل التنظيمات والتجمعات اليهودية في العالم ويكون بمنزلة جسم استشاري يقدم خدماته للكنيست وللنواب.
والفكرة بعد إزالة الديباجات عنها هي في جوهرها تصور يجعل الكيان الصهيوني مركزا ليهود العالم يستفيد من قدراتهم السياسية والاقتصادية ويشركهم في اتخاذ القرار مع احتفاظ مواطني الكيان بحق الفيتو ومراعاتهم على قدر الإمكان، أن يأخذ منهم الكيان الصهيوني كل شيء ويعطيهم في المقابل حسب ما يستطيع!!
ومن التوصيات المهمة في التقرير الدعوة لإنشاء "أكاديمية يهودية لإعداد قيادة مستقبلية لترأس الجاليات اليهودية في العالم، وبلورة سياسة يهودية عامة تجاه العالم عامة والإسلام خاصة، انتهاج سياسة فعالة لتشجيع تهويد أبناء العائلة غير اليهود في العالم وفي إسرائيل". ما يعني أن يتولى الكيان الصهيوني "صناعة" النخب لكل الجاليات اليهودية في العالم، وهناك توصية أخرى نصها: "إعطاء ثقل للشعب اليهودي ليكون عاملا مهما في الحلبة السياسية الدولية". ومن أجل تعزيز مكانة المعهد لدى متخذي القرار في الكيان الصهيوني وبين يهود العالم، تم مؤخرا تعيين الدبلوماسي الأمريكي دينيس روس رئيسا لمجلس إدارته.
ما يثيره التقرير من مشكلات محتملة نتيجة تبني هذه الصيغة قد يحتاج لوقفة أخرى فهو يعيد إنتاج إشكالية ازدواج الولاء ويحمل يهود العالم تبعات السياسات الرسمية للكيان بل قد يزيد مشاعر العداء لليهود على نحو غير متوقع وبخاصة في الدول التي تشهد قدرا كبيرا من التماسك القومي، كما أنه لا يأخذ في الحسبان تفاوت ردود الفعل المتوقعة من يهود العالم بل احتمال تباينها تماما . لكنه يطرح تصورا طموحا لإقامة امبراطورية "إسرائيل الكبرى" العابرة للقارات لا من النهر إلى لنهر بل من المحيط إلى المحيط، وهي امبراطورية ستلعب الديموجرافيا فيها دورا أكبر من الجغرافيا وهو تحول نوعي شديد الخطورة وتحد جديد سينقل الصراع إلى أفق مغاير.