ما هو مطروح حاليا من الداخل والخارج هو عملية "تغيير" أي عمل منظم مستهدفاته محددة سلفا بغض النظر عن أن يكون موقفنا منها سلبيا أو إيجابيا، والتغيير يعني حتما وجود مغير يملك إرادة التغيير والقدرة عليه معا ويسعى عبر مخطط واضح لإنفاذ الإرادة واستخدام القدرة معا للانتقال بمن يقع عليه التغير من حال إلى حال. أما التغير فهو عملية انتقال ينتجها التفاعل التلقائي لعوامل مجتمعية وثقافية واقتصادية ينتقل فيها المجتمع من حال إلى حال دون أن يكون الانتقال استجابة لإرادة من يغير، وما ترجحه الشواهد أن العالم العربي خاضع لعملية تغيير من المؤكد أن تؤدي إلى تغيرات مجتمعية وثقافية واقتصادية جزئية أو شاملة ما يعني أن الخيار قد استقر بعد أكثر من خمسة عقود من الثبات بل التراجع على أن تتولى "الدولة" تغيير المجتمع لا أن تستجيب لمنطق الأمور فتكون استجابة لقناعات هذا المجتمع وتتغير هي بوصفها ترجمة لهذه القناعات، وهو ما يعرف في أدبيات السياسة بالتغيير من أعلى.
وعند النظر إلى عملية التغيير فإن قصر زاوية النظر على جدل الداخل والخارج يعنى أننا نقيم وزنا لمشاعرنا الوطنية المعادية لفرض التغيير من الخارج، وهي جديرة بكل اعتبار، أكبر مما نقيم لحقيقة أن التغيير الجاري إعداده بالفعل يجري فرضه هو الآخر لكن من الداخل، حيث "الدولة" في المحيط العربي الإسلامي لا تستطيع حتى الآن التخلي عن فكرة أنها تقود المجتمع، وهو ما يسميه المفكر الإسلامي التونسي المعروف أبو يعرب المرزوقي "التحديث الاستبدادي". ومما يبعث على الخوف الشديد على المستقبل أن هذا النموذج الغربي المنشأ قد أدى لنتائج كارثية في المجتمعات الغربية وبخاصة في تجربة روسيا القيصرية ومن بعدها الاتحاد السوفيتي وكلاهما تجربتان للتحديث الاستبدادي اختلف محتواهما واتفق بناؤهما النظري إلى حد بعيد.
ولكي يدرك القارئ الفرق الكبير بين التغير والتغيير وبين التحديث الاستبدادي والتحديث المستند لإرادة مجتمعية نشير إلى علامات فارقة في تاريخ بعض تجارب التحديث الاستبدادي السابقة. فرغم ما يسبغه الكثيرون على الثورة الفرنسية من صفات التمجيد بوصفها الأب الشرعي للعصر الحديث بظواهره السياسية الجديدة التي ما زالت تحكم عالم اليوم، فإنها عندما حررت إرادة الفرنسيين من استبداد الملكية والكنيسة لم تمنح المواطنين حق إعادة بناء الدولة على نحو يرضي قناعاتهم ففرضت عليهم نوعا آخر من الاستبداد وصل إلى حد إبادة أعداء الثورة من المواطنين الذين لم يكن أي منهم جزءا من بنية النظام الملكي أو التنظيم الكنسي وكانت جريمة إبادة التي ارتكبت ضد المدنيين في منطقة فاندي أكثرها بشاعة. وكانت كل جريمة الضحايا أنهم رفضوا فرض الإلحاد رسميا وقرروا الاعتصام بمسيحيتهم فغاص جنود الثورة في دمائهم.
ورغم أن الصراع بين الدولة ومعارضيها السياسيين في المحيط العربي الإسلامي هو ما استرعى القدر الأكبر من اهتمام المحللين فإنه كان في حقيقة الأمر يخفي صراعا أعمق على هوية الدولة في هذا المحيط وصراع الهوية أكثر الصراعات خطرا على مستقبل أي أمة، وما حدث في العراق بعد الاحتلال من جدل حول عروبتها وما شهدته السودان من صراع طوال خمسين عاما مؤشران على ما تشهده المنطقة من تجاذب يوشك أن ينقلب إلى صراع في عدة بقاع منها وما لم يحسم هذا الصراع فلا معنى لأي تغيير سياسي طالما أن كل طرف لا يري فيه إلا مساحة أوسع من الحركة لنصرة قناعاته حول الهوية لا للتدافع السياسي حول برامج سياسية.
وبشكل عام كان الخطاب التحليلي العربي وبخاصة خلال العقدين الماضيين يميل معظمه لتحميل الإسلاميين – وبخاصة المتشددين منهم- المسئولية عن هذا الصراع على الهوية وهم بالفعل يتحملون المسئولة إلى حد ما عن ذلك لكن العلمانيين المتشددين يتحملون المسئولية بقدر أكبر عن هذا الصراع وهو ما يجعلهم في بعض الأقطار العربية يتنكرون لخطابهم التحديثي الذي طالما بشروا به مطالبين بتعزيز الحريات وفي مقدمتها الديموقراطية، فإذا بهم فجأة يتحولون إلى شركاء نشطين في حلف أعداء التغيير الديموقراطي خوفا من أن تأتي الديموقراطية بالإسلاميين ما يعني أن المشكلة هي بالأساس مشكلة "هوية" الدولة قبل أن تكون مشكلة "إدارة" هذه الدولة، بل إن بعضهم يرفع بوضوح شعار "لا للانتخابات لأن الشارع السياسي غوغائي".
وبطبيعة الحال فإن تغيير المنظور يؤدي لتغير جدول أعمال أي مشروع للتغيير فبدلا من التركيز المبالغ فيه على قضايا وضع المرأة والمساواة التامة بينها وبين الرجل بمنطق حسابي سطحي وحرية التعبير بوصفها هما نخبويا محضا لا يهم الناس كثيرا وإن تعزيزه مما لا يختلف عليه أحد، لتطرح قضايا مثل إعادة هيكلة وضع المؤسسات العسكرية في الدول ذات النظم الجمهورية وإنهاء احتكارها للسلطة، والتحول نحو الحكم الدستوري في الدول ذات النظم الوراثية، وضرورة حصول كل مواطن على نصيب "نقدي" عادل من الدخل القومي لبلده، وإعادة بناء المجتمعات لموازنة قوة الدولة، وبناء تصور أكثر وضوحا وواقعية للمفاهيم الإقليمية المتعلقة بالعلاقات العربية العربية والعلاقات العربية الإسلامية. أما البند الأهم في جدول الأعمال الذي أعتقد أنه يجب أن يكون مطروحا في هذه اللحظة فهو ضرورة المزاوجة بين التغيير والتغير وأن يتخلى المتشددون من الإسلاميين والعلمانيين معا عن فكرة "الوصاية" على الأمة، أما الاكتفاء بخطاب التنديد بالخارج والدعوة لإقصاء خصوم الداخل فسيجعل التغير والتغيير محكومين على الأرجح بفشل نحن في غنى عنه، وربما كان علينا النظر بشكل مختلف لما أنجزته دول خليجية من نجاحات على صعيد التنظيم السياسي لم تصنعها الثورة النفطية بل صنعها تقدير حصيف لأهمية الموازنة بين التراث والتحديث وتعد تجارب الإمارات والكويت وقطر دروسا لا يعيب الشقيقات الكبريات التعلم منها.