من حكايات جدتي التي كنا نتلهف لسماعها ونحن صبية..على رغم أكثرية الحكايات الجميلة والمشوقة .. كحكاية الغول والغولة.. وحكاية الغربال.. وحكاية العنزة والذئب.. وحكاية الرجل الذي توضأ باللبن فمسخه الله لقلقا.حكاية الغراب وما اقترفه من جرم في حق العرب.هذه الحكاية وأنا صغير كانت تخلق لدي حالة من الكره حيال هذا الغراب الذي أخطأ الحساب في ما قد كلف به.وكنت أتصور وضعنا الأسري المزري نتيجة طيش هذا الغراب الأرعن.بل كنت ألعنه كلما رأيته وأكلمه على علم أنه لا يسمعني لأنه بعيد ولعلمي أيضا أنه طائر أبكم. فكنت أتشفى فيه لأنه نال جزاءه بأن جعل الله عنقه مثقوبة.هكذا صورت لنا جدتي الحكاية التي تقول من أولها إلى آخرها.كان يا ماكان في قديم الزمان رجل غني جاء بكيسين ،أحدهما فيه ذهب والآخر فيه قمل .وكان هذا الرجل صالحا من أمة العرب يحب الخير لأمته .. فأراد أن يجعلها غنية بأن يمنحها ذلك الكيس المملوء بالذهب.وكما أن العالم لم يكن فيه فقط العرب .بل كان فيه أمما كثيرة وهذه الأمم كانت تتربص الشر بأمة العرب.. فأراد هذا الرجل الصالح أن يجعلها غنية حتى تقدر على صد العوائد والعدوان .. وتكون أغنى أمة على وجه الأرض.. وتكو ن بقية الأمم في القاع .وكانت تخونه وسيلة إيصال الكيسين المطلوبين فكيس الذهب للعرب وكيس القمل للأمم الأخرى من غير العرب .ومر طائر الغراب فجأة أمامه فجال بخاطره أن المهمة سيتكفل بها هذا الطائر ..فوحده القادر على هذه المهمة لأنه يطير ويستطيع أن يوصل الكيسين للجهة المقصودة.فطلب الرجل من الغراب أن يقوم بالمهمة .وتقبل الغراب الفكرة بفرح وسرور .فأخذ الكيسين وطار إلى حيث الهدف المرجو .. وهو على علو من أمة العرب نسي أي الكيسين سيلقي .. وبدل من يلقي كيس الذهب .. ألقى كيس القمل .. وكيس الذهب ألقاه على الأمم الأخرى.وعاد لتوه إلى الرجل كي يأخذ المكافأة.. فوجد الرجل في نفس المكان ينتظره .وبادره الغراب بأن المهمة قد نفذت على أحسن ما يرام .وأراد الرجل أن يراجع معه ما قاله له ..فوجده قد عكس المسألة .. فلم يكن من الرجل إلا أن دعا الله بأن يجعله أسودا ويثقب عنقه حتى لا يقدر على إطعام نفسه. هذه كل الحكاية التي لن أنساها أبدا مادمت حيا.وهي حكاية تحمل دلالات عديدة..على الرغم من أنها مستوحاة من القصص الأسطورية غير الواقعية.الدلالة الأولى: أن الحكاية نسجت في أخيلة الأميين أن الغراب هو سبب فقرنا نحن العرب والمسلمين وقد تتفق نوعا ما مع نظرية المؤامرة الخارجية التي تطرحها الأنظمة العربية الحالية .الدلالة الثانية:أن الغراب الذي كلف بالمهمة لم يكن مكترثا بها على تأكيد الرجل بإلزامية إلقاء كيس الذهب على العرب.. فجاءت الطامة .. وكان من الواجب أن يقوم الغراب بالعمل المنوط به ولكن لم يكن في المستوى وهنا يستوقفنا شيء هو أن الخلل إذا حدث فلأن العمل مغشوش وغير متقن.الدلالة الثالثة: إمكانية إيجاد الحلول الخارجية وأيضا إبراز مدى حب هذا الرجل لأمته العربية.الدلالة الرابعة: أن العمل الذي قام به الغراب كان الأحرى أن يقوم به الرجل بنفسه لا أن يكلف به غيره..وتعطي إشارة إلى مهمة التكليف التي نتميز بها نحن العرب فبدل أن نعتمد على أنفسنا نرضى بأن يقوم الناس بأعمالنا ونحن قاعدين.إن الحكاية في الحقيقة تتميز بأسطوريتها لكنها حكاية تعانق الحقيقة بأن في العرب من يحب الخير لأمته ولكن الثقة العمياء أحيانا تجعله يجني عليها ..كما أن هناك من يريد المساعدة ولكن لا يملك القدرة فيذهب هباء منثورا.ولا نصدق أخيرا أن الغراب هو الذي أفقرنا لأننا أغنى أمة على وجه الأرض.. ولكن قد نجد القمل الذي ألقي على العرب هو اللعنة على أنهم لم يمتثلوا لأوامر الله .. فجاءتهم من غراب كنت أحسبه لسنوات فقط أن عنقه مثقوبة وأن سواده من تلك لعنة الرجل…