لعل المتابع المهتم بشؤون المنطقة العربية، وبملامح المشروعات التي يتم صياغتها من أجل "إعادة هيكلة المنطقة"، ومحيطها الجغرافي، وعلى رأسها المشروع الأمريكي، الذي أطلق عليه "الشرق الأوسط الكبير"، ثم "الموسع" بدلاً من "الكبير".. لابد له أن يلاحظ: أن اصطلاح "الشرق الأوسط" ليس بالاصطلاح الجديد؛ فهو اصطلاح يمتد إلى العقود الأولى من القرن العشرين الفائت.
إذ، لم يكن هذا الاصطلاح، والمفهوم الذي يؤشر إليه، سوى تعبير عن المنظور الاستعماري في العصر البريطاني، عبر رؤية العالم ومناطق النفوذ من زاوية المركز الأوروبي؛ وفي الوقت نفسه، ترسيخ التوجه إلى نفي لأية تسمية، أو: مشروع، لتوحيد الوطن العربي؛ ومن هنا، كان تعبير "الشرق الأدنى" مرادفاً لـ "البلدان العربية" الواقعة في ما يسمى بالهلال الخصيب؛ هذا، فضلاً عن اختلاف دلالة مفهوم "الشرق الأوسط" قبيل وأثناء الحرب الأوروبية الثانية (1939-1945)، عن دلالته بعد الحرب. وإذا كان الاصطلاح قد شهد انتشاراً متعمداً في العصر الأمريكي، الذي يبدأ ـ في اعتقادنا ـ قبيل انتهاء الحرب الباردة، فقد اعتراه إضافات عديدة، حتى استقر، في التحليل الأخير، تحت عنوان "الشرق الأوسط الكبير"، ثم "الموسع".. وإلى جانب هذا الاتساع في الدلالة، فقد شهد الاصطلاح، ودلالته، أيضاً، انقلاباً في الأدوار؛ فبينما كان في العصر البريطاني، يتم التركيز على قناة السويس ومصر، أصبح في العصر الأمريكي يركز على النفط والخليج.
فالتقارير الإستراتيجية الأمريكية ـ منذ السبعينات ـ تتحدث عن خطط التحرك، والبدائل المختلفة، من أجل التحكم في منطقة الخليج، لضمان إمدادات النفط. وتزايدت هذه الدراسات في إعدادها، وحدة لغتها، منذ قيام الثورة الإيرانية وإسقاط الشاه؛ وغطت حقبة الثمانينات، وصولا إلى العمل العسكري في التسعينات وبداية الألفية الجديدة... ثم، في تقديم مشروع "الشرق الأوسط"، الذي نجد أبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية في تقرير مجموعة الدراسة الرئاسية (المقدم في: عام 2000)، ذلك الذي شمل توصيات بالخطوات التي ينبغي اتباعها في الشرق الأوسط من المجموعة الرئاسية الجديدة(!!)..
لم يكن مفهوم "الشرق الأوسط" يشير في الواقع إلى حيز جغرافي معين، ولا إلى تاريخ محدد مشترك لشعوب المنطقة؛ بل، استند ـ بالأساس ـ إلى نظرة السياسات (الاستعمارية)، الأوروبية، إلى أوروبا كـ "مركز"، أو: كـ "قطب جاذب" للعالم، يقع خارج "الشرق الأوسط".. وبناء على ذلك، فقد صكت القوى الأوروبية التعبيرات المختلفة بخصوص مناطق التوسع الاستعماري، انطلاقًا من المركزية، أو: التمحور، حول أوروبا في عصر الاستعمار التقليدي، الذي شكل عالماً تميز بكونه ذا "قطب واحد" هو القطب الاستعماري العالمي بدوله المختلفة.
في هذا الإطار، شاعت فكرة "الشرق الأوسط" في السياسة البريطانية، وفكرة "المشرق" في أدبيات السياسة الفرنسية. وكلاهما مفاهيم جغراستية" (جغرا سياسية) و"إستراتيجية"، دلت على طبيعة مخططات القوى الأوروبية إزاء "شرقها" هي، بالمعنى الجغرافي؛ ناهيك عن أنها عكست إستراتيجيات تقاسم مناطق النفوذ بينها، وخصوصاً مع اكتشاف النفط في كل من إيران والعراق وشبه الجزيرة العربية.
وهكذا تداخلت، في المشروع الاستعماري، الجغرافيا والتاريخ و"العقيدة الموجهة" (الأيديولوجيا)، وحمل المفهوم في طياته تصوراً لعلاقة البلدان العربية بالدول الأوروبية.
وعندما أقيمت إسرائيل، كـ "دولة"، في فلسطين بدعم استعماري مباشر، صارت "الشرق أوسطية"، إلى جانب مركزيتها الأوروبية، شديدة الارتباط بعلاقة العرب بإسرائيل. ذلك أن إدراك القوتين الاستعماريتين، الفرنسية والبريطانية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لخطورة ما عرف بـ"المسألة اليهودية"، أي: موضوع رفض تجمعات يهودية عديدة في أوروبا الاندماج في الحداثة والتحديث والعلمانية الغربية، جعلهما يفكران جدياً في إقامة "وطن للشعب اليهودي"، أو: لـ"الأمة اليهودية" حسب تعبير بالمرستون رئيس الوزراء البريطاني في أربعينات القرن التاسع عشر، أو حسب تعبير نابليون بونابرت قبل ذلك، أي: في أواخر القرن الثامن عشر، تحققان به ـ فرنسا وبريطانيا ـ هدفين متقاطعين، هما: تجزئة المنطقة العربية من جهة، وحل "المشكلة اليهودية" التي أرّقت أوروبا كثيراً، من جهة أخرى.
ومن ثَم، فإذا كان لنا أن نستعير مقولة المحلل الإستراتيجي المصري، محمد سيد أحمد، يمكن القول: "إن الشرق أوسطية في أبعادها التاريخية، لا تقتصر على علاقة ثنائية بين العالم العربي/ الإسلامي من جانب، والعالم الغربي/ المسيحي/ اليهودي (بصفته كلاً لا يتجزأ) من الجانب الآخر؛ وإنما هي علاقة "ثلاثية"، تشمل ثلاثة أضلاع في آن واحد: العالم العربي/ الإسلامي، والعالم الغربي، والعالم اليهودي/ الصهيوني. ونخطئ كثيرًا لو ضممنا العالم اليهودي/ الصهيوني إلى العالم الغربي على وجه الإطلاق، دون إدراك أن هناك أوجه تمايز وتباين في الرؤية والهدف والإستراتيجية بينهما، كثيرًا ما يغفلها العرب".
بعبارة أخرى.. تنتسب "الشرق أوسطية"، كفكرة، إلى مركز خارج المنطقة العربية ومحيطها الجغرافي، هو أوروبا تاريخياً، وإلى الغرب، وفيه الآن الولايات المتحدة قطبه الأكبر.. أيضاً، لم تعبر "الشرق أوسطية"، أبداً، عن نطاق جغرافي تاريخي محدد على وجه الدقة، بل تعرضت للانكماش والتوسع مع تغير المشاريع الغربية والأمريكية تجاه الوطن العربي والعالم الإسلامي.
ففي إطار سعي بريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة لحصار المد العربي بزعامة جمال عبد الناصر، في عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، تم توسيع المفهوم ليشمل دولاً إسلامية غير عربية، مثل: إيران في عهد الشاه وتركيا، بحيث يصبح الشرق الأوسط نطاقًا إستراتيجياً وأمنياً يقوم على سلسلة من الأحلاف (حلف بغداد، في العام 1955، مجرد مثال)؛ ثم مشروع "النقطة الرابعة" للرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور، لـ "ملء الفراغ الإستراتيجي" بقيادة الولايات المتحدة مع أفول نجم بريطانيا وفرنسا (بدءاً من: عام 1957).
وبصرف النظر عن كثير من التفصيلات، يمكن القول: أن الولايات المتحدة، منذ أن انطلقت إلى ملء الفراغ الإستراتيجي الناجم عن تراجع بريطانيا وفرنسا في سلم القوى المؤثرة في القرار الدولي، أي: خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، كانت قد وضعت تصوراً للشرق الأوسط، يحصره في الأطراف العربية التي تقبل التسوية السياسية للصراع بين "العرب.. وإسرائيل"، بقيادة منفردة لواشنطن، ومعها كل من إسرائيل وإيران الشاه وتركيا؛ مع التأكيد على أهمية إقامة علاقات اقتصادية وتنسيق أمني بين هذه الأطراف العربية وإسرائيل. وقد تم ذلك، جزئياً مع توقيع مصر السادات معاهدة "سلام" مع إسرائيل (في عامي: 1978-1979).
بيد أن هذا لم يكن نهاية المطاف، في الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط.. إذ، جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتضيف إلى هذه الرؤية أبعاداً أخرى.
انتهزت دوائر اليمين المحافظ واليمين المسيحي الأمريكية، الحاكمة في إدارة جورج دبليو بوش، هجمات الحادي عشر من سبتمبر (في: عام 2001)، والعدوان على العراق واحتلاله، والإطاحة بنظام صدام حسين، لفرض تصوراتها عن ما أسمته "الشرق الأوسط" ("الكبير"، ثم "الموسع")، والذي يقوم على إعادة صياغة كاملة للخارطة "الجغراستية" (الجغرا ستراتيجية) للمنطقة العربية، انطلاقاً من طمس ما تبقى من بقايا النظام الإقليمي العربي، عبر تذويب هذا الفضاء السياسي الجغرافي التاريخي الثقافي المشترك في نطاق إستراتيجي أوسع، يمتد من بحر قزوين وشمال القوقاز شمالاً وشرقاً إلى شمال أفريقيا والمغرب العربي غرباً.
وقد استندت دوائر هذا اليمين (المحافظ، والمسيحي المتطرف)، إضافة إلى حلفاء إسرائيل، بمشاركة بعض مراكز البحوث المؤثرة في صناعة السياسات الخارجية الأمريكية، إلى مزاعم وتصورات غير متناسقة ويسيطر عليها الطابع البراجماتي.. من أهم هذه التصورات، أن "الشرق الأوسط" هو منطقة الاضطراب الكبرى في العالم؛ بل، ومصدر رئيس للمشكلات والتهديدات المستجدة للأمن القومي الأمريكي، وعلى رأسها: بعض الدول "المارقة"، والإرهاب والأصولية والتطرف، والهجرة غير المشروعة، وأسلحة التدمير الشامل.. إلخ.
ضمن الأدلة التي كانت قد ساقتها هذه الدوائر: وجود نظام صدام حسين نفسه، وكون جميع من نسب إليهم القيام بالهجمات على واشنطن ونيويورك هم من بلدان عربية، وساعدهم آخرون من تنظيم القاعدة وباكستانيون وغيرهم من شرق أوسطيين.. هذا إلى جانب ما كرره المسؤولون الأمريكيون، بدءاً من الرئيس الأمريكي بوش، إلى نائبه ديك تشيني، إلى وزير الخارجية كولن باول، إلى مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس، إلى وزير الدفاع رامسفيلد، وابنته إليزابيث ومستشاره بيرل ووكيل الوزارة دوجلاس فايث.. وغيرهم، وذلك بناء على بحوث وتقارير قدمتها مراكز بحوث يمينية مرتبطة بفريق بوش (مثل: مؤسسة "أمريكان إنتربرايز"، ومؤسسة "هيريتاج"، وغيرها).
ومن الملاحظ أن السمة المشتركة في كافة تلك التصريحات الأمريكية، مفادها: أن الطابع السلطوي للنظم العربية الحاكمة في دول عربية كبيرة (جاء ذكر مصر والسعودية وغيرهما)، إلى جانب مناهج التعليم، والسياسات الثقافية والإعلامية، والفساد السياسي والمالي؛ وكذلك، غلبة نظم الحكم وأنماط التفكير غير العصرية، إضافة إلى الحرمان الاقتصادي والاجتماعي.. هذه كلها ـ حسب ذات التصريحات ـ تعد مسؤولة عن شيوع التعصب والتطرف والإرهاب، وكراهية الولايات المتحدة والغرب، فضلاً عن موجات الهجرة، غير الشرعية، إلى الدول الغربية...
وهنا، لنا أن نلاحظ أمور ثلاثة، في هذا الخصوص..
فمن جهة، فإن إدارة بوش قد بادرت إلى أن تقوم الولايات المتحدة، بنفسها، بهذه المهمة مباشرة، وليس عبر إسرائيل.. نعني: مهمة "إعادة الهيكلة الشاملة"، للمنطقة العربية خاصة، والعالم الإسلامي عموماً، في ما يعرف الآن بـ "المشروع الأمريكي للشرق الأوسط".
ومن جهة أخرى، فإن إدارة بوش، وكنوع من محاولة إضفاء "شرعية دولية" على توجهها هذا، كانت قد خيرت العالم كله بين تأييد ما يسمى الإرهاب أو محاربته؛ بل، وحاول بوش الربط بين ظاهرة الإرهاب وبين انتشار أسلحة الدمار الشامل. هذا، ناهيك عن تصميم الإدارة الأمريكية على أن تحتكر هي، وحدها، تحديد التهديدات المختلفة، دون ما مشاركة الآخرين، بمن فيهم الحلفاء الأوروبيون أنفسهم.. وكلنا مايزال يتذكر مقولة بوش الشهيرة، بأن: من لم ينضم إلى تصوره، في هذا الصدد، إنما يدخل مباشرة في خانة دعم الإرهاب أو التستر عليه.
ثم، من جهة ثالثة، لنا أن نتصور ماذا تعني تصريحات الرئيس الأمريكي، ومعاونيه، من أن: "أحداث سبتمبر كانت قد أثبتت أن المؤسسات القديمة، وكذلك التحالفات والقواعد، لم تعد مناسبة لحماية الشعب الأمريكي"؛ وأنه: "إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من قمع الإرهابيين، فإن ميدان عملهم سوف يتسع، وإذا تمكنوا من الوصول إلى أسلحة التدمير الشامل فسوف تترتب نتائج خطيرة".. ولذلك، واعتماداً على هذه التصريحات، فقد خاطب بوش النظم العربية خصوصاً، والعالم عموماً، مشيراً إلى أن: "الولايات المتحدة سوف تتصرف في الوقت، وبالطريقة التي تلائمها وتراها مناسبة، عندما تتوصل إلى وجود رابطة بين الإرهابيين والتقانة [التكنولوجيا] المدمرة".. مضيفاً: "أنه من الضروري هزيمة أعداء الولايات المتحدة، وعدم الاكتفاء بالاعتراض على وجودهم".
وفي ما يبدو، هكذا، فإن ثمة جديداً في الرؤية الأمريكية الراهنة إلى الشرق الأوسط، وإلى الخارطة التي تشمله، وذلك لأجل أن يتناسب مع المصالح الأمريكية الإستراتيجية.
ضمن أهم ملامح هذا الجديد المشار إليه، تأتي مجموعة من النقاط، في ما يخص الرؤية، أو قل: التعريف الأمريكي للشرق الأوسط، في هذه المرحلة التي نعاصرها، مرحلة السنوات الأولى من الألفية الجديدة.
ضمن أهم تلك النقاط..
أن التعريف الأمريكي للشرق الأوسط، هو: تعريف غير خاضع لخطوط المعارك الحربية، وتبدلات القتال والمواقع (كما كان الحال في رؤية بريطانيا العظمى)، أو كما كان الأمر بالنسبة للحرب الباردة وصراع الكتلتين، بعد الحرب الأوروبية الثانية؛ ولا يعني هذا، عدم دخول البعد العسكري في هذا التعريف، لكن التعريفات السابقة ترسم الحدود وفق وجود القوات والعمليات، بينما التعريف الأمريكي يضع الحدود أولاً للمفهوم ثم يجعل القوة العسكرية (وغيرها من الأدوات الاقتصادية والثقافية) تتحرك فوقها، وتقيم عملياتها وقتما تشاء.
أضف إلى ذلك، أنه تعريف يقوم على أساس خارطة بلا تضاريس جغرافية، فهي لا تحمل عوائق طبيعية؛ وبلا تضاريس عسكرية أو بشرية، حيث لا تسجل عوائق صناعية أو حواجز مانعة.. ومن ثم، يبدو الرسم فوقها للأقاليم والحدود التصورية، بمعنى: أن لا صعوبة للخيال أو الجموح أن يسجل ما يريد أن يتصوره؛ أي: الكتابة والرسم والتشكيل فوق صفحات بيضاء وخالصة..
ولنا أن نتصور، والحال هكذا، أن المطلوب ملء تلك الصفحات بالثقافة والأفكار والنظام الاقتصادي، بل والعسكري أيضاً، وفق المشيئة الأمريكية؛ وهي فرصة قلما توفرت في التاريخ بهذه الصورة، ولا تتحمل التردد أو الانتظار لحظة واحدة، من منظور رجال الإستراتيجية الأمريكية، خاصة أن مفهوم الشرق الأوسط، بمعناه "الواسع/الجديد"، حسب هذا المنظور، يمثل جزءاً كبيراً من منطقة الارتطام.. المنطقة التي يمكن أن ينطبق عليها رؤية ماكيندر منذ أوائل القرن الماضي للصراع بين قوى البر وقوى البحر للسيطرة على العالم.
ولأن هذه المنطقة، هي أرض الصدام والمعركة وجسر العبور لطرفي الصراع؛ فهي بين فكي الكماشة، وهي ضحية موقعها الجغرافي؛ وهو ما يسهل المهمة الأمريكية للانقضاض عليها، والعبور منها للانفراد العالمي أيضاً..
ولأنها فرصة تاريخية ـ كما تراها عقول التخطيط الإستراتيجي الأمريكية ـ فإن الإمساك بها ضرورة، وتشكيلها وفق الاحتياجات الاقتصادية الأمريكية (وفي مقدمتها: مصادر الطاقة، ثم الأسواق) حتمية؛ وبالضرورة والحتمية أن تكون خطوط الطول والعرض في الخارطة الجديدة هي التي توفر سهولة الإمدادات بالطاقة وسرعتها ورخصها، إلى جانب التحكم فيها، خاصة في ظل غياب الموانع والعوائق.
ووفق الضرورة والفرصة والاحتياجات، فإن فصل "دول" من إقليم الشرق الأوسط، أو إضافة "دول" أخرى إليه أمر بديهي؛ بل إن السعي إلى تقسيم دولة ما إلى دويلات أو كانتونات أو مناطق طائفية أو عرقية هو أمر ضروري، تحكمه الرغبات والخطة الأمريكية، فضلاً عن أنه تأمين للمستقبل ومفاجآت التاريخ ودروسه؛ هذا إلى جانب سهولة السيطرة لواشنطن وصعوبة المواجهة ضدها.
وفي ما يبدو، هكذا، فإن الطبعة الأمريكية الجديدة، للشرق الأوسط "الموسع/الكبير"، هي: طبعة يمينية محافظة، لا تدرك أهمية إيجاد حلول للصراعات الإقليمية وعلى رأسها الصراع بين "العرب.. وإسرائيل"، وضرورة الخروج الأمريكي من العراق كمدخل لتخفيف حدة الاستقطاب.. أيضاً، هي: لا تدرك جسامة التناقض الكائن بين عدم إمكانية التوفيق بين الضربات الوقائية التي تتبناها هذه الإدارة، ومتطلباتها الأمنية في إطار محاربة ما يسمى الإرهاب وبين الإصلاح الديمقراطي.
ترى، هل نغالي إذا قلنا: أن أهم بوابات الانطلاق إلى "إعادة هيكلة الشرق الأوسط"، من المنظور الأمريكي، والتي تمثل، في الوقت نفسه، بوابات الأمن العربي التي لابد وأن يطرأ التغير على دورها الوظيفي، في إطار كافة الظروف والملابسات التي نعايشها في الراهن، هي: البوابة الجنوبية (السودان)، والبوابة الشرقية (العراق)..
في ما يخص هذه الأخيرة، العراق، فلا نعتقد أن ثمة شيئاً يمكن أن نورده، قولاً، بعد أن خسر العرب هذه البوابة، بعد الاحتلال "الأمريكي ـ البريطاني" لهذا البلد.. رغم ذلك، يمكن الإشارة إلى أن الرؤية الأمريكية لهذا البلد، في ما يبدو، تتمحور حول دفع العراق على طريق "الفدرلة"، اعتماداً على الطوائف والمذاهب الرئيسة التي تنطوي في إطاره. صحيح أن الوضع الراهن في العراق، لم يكن ليخطر في بال الأمريكيين؛ إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضاً، أن المحاولة الأمريكية مستمرة، وما حدث في شمال عراق من قبل، وما حدث مؤخراً في جنوبه، لهو خير دال في هذا الإطار.
أما في ما يخص السودان، فإن ما يمكن أن يقال: أنه يسير هو الأخر على نفس الدرب؛ درب الخسارة العربية له.. خاصة، إذا لاحظنا: المفاوضات الجارية في بين الحكومة السودانية وحركة قرنق من قبل؛ ولاحظنا، أيضاً، ما يجري راهناً بخصوص إقليم دارفور.. فالاتفاقات التي تمت بين الحكومة السودانية وحركة قرنق، بخصوص الجنوب، تشير إلى الفترة الانتقالية التي تمتد إلى ستة سنوات، والتي يقر بعدها الجنوب ـ ودون ما تدخل من الشمال ـ إذا كان سيبقى ضمن السودان الموحد، أم "سيختار" الانفصال؛ وهو ما يعني: أن ثمة احتمالاً قوياً في "فدرلة" جنوب السودان وشماله.. فإذا ما أضفنا إشكالية غرب السودان (إقليم دارفور)، يمكننا القول: أن المحاولة الأمريكية في دفع السودان على طريق "الفدرلة" مستمرة، خاصة في الإطار العام لمشروع واشنطن الخاص بالقرن الأفريقي الكبير، والذي تحدثنا عنه كثيراً.
هذا عن العراق والسودان..
أما عن القضية الرئيسة في الصراع بين "العرب.. وإسرائيل"، نعني: القضية الفلسطينية.. فمن الواضح، وعبر ملاحظة التطورات الجارية في الأراضي العربية المحتلة، وخاصة في قطاع غزة؛ يمكن القول: أن المشروع الشاروني الخاص بالانسحاب ـ أحادي الجانب ـ من القطاع، لايمثل سوى خطوة مفتاحية على طريق تصفية القضية الفلسطينية. إذ أن أهم ما يأتي في شأن هذا الانسحاب، أنه سيترك القطاع ليغرق فيه الفلسطينيون، وليصبح ذلك شغل المصريون الشاغل (مثلما ما يحدث في لبنان، الذي أصبح، وسوف يصبح، شغل السوريون الشاغل؛ هذا مع تأكيدنا على الاختلاف النوعي بين المثالين).
أيهما يأتي أولاً، إذن.. "فدرلة" العراق (والسودان)، أم دولة فلسطينية، يغرق فيها الفلسطينيون، في غزة(؟!).
في اعتقادنا، أن كلها تسير في اتجاهات متوازية.. بيد أن ما يحدث في العراق، راهناً، يمثل الاحتمال غير المتوقع أمريكياً، والذي ربما ـ نقول: ربما ـ يبطئ من خطوات المشروع الأمريكي.. إياه.