لعل المتابع المهتم بالقضية المثارة خلال الآونة الأخيرة، نعني: قضية "الجدار العازل" الذي تقيمه إسرائيل، أو: حكومة أريئيل شارون بالأحرى، كـ "فاصل" أو "عازل" بين الأراضي الفلسطينية وبين إسرائيل، لابد أن يلحظ مدى التناقض الحاصل في ما بين: قرار محكمة العدل الدولية، وبين قرار المحكمة العليا الإسرائيلية، بشأن هذا الجدار. ففي حين جاء قرار محكمة العدل الدولية معتبراً "الجدار الفاصل" في الضفة الغربية "غير شرعي"؛ ومن ثم، دعا إلى هدمه، وتعويض المتضررين من بنائه.. جاء قرار المحكمة العليا في إسرائيل (الذي صدر قبل قرار محكمة العدل الدولية)، وقضى بـ: "قبول مبدأ الجدار كضرورة أمنية"؛ هذا، رغم ما حاوله القرار الأخير من الدعوة إلى: "تعديل بعض أقسام الجدار، التي تلحق الأذى بالسكان العرب".
ليست هذه هي الملاحظة الوحيدة.. ولكن هناك ملاحظة أخرى في الموضوع؛ إذ، وبحسب الصحافة الإسرائيلية، فإن الجدار كان قد أثار غضب محكمة العدل الدولية، محكمة لاهاي، لأن غايته هي: "ضم المستوطنات وليس منع الإرهاب"، وأن: "استخدامه تم في شكل غير قانوني لضم الأراضي الفلسطينية، بما يؤدي إلى خلق واقع سياسي جديد، وترسيم حدود جديدة، وضم كتل استيطانية بالقوة إلى الأراضي الإسرائيلية".
هنا، يصبح التساؤل، الذي يطرح نفسه، هو: هل تمثل فلسفة الجدران العازلة.. تراجعاً عن إستراتيجية التوسع التي قامت على أساسها "دولة إسرائيل"، منذ ما قبل منتصف القرن العشرين الماضي(؟!).
بداية، لا نغالي إذا قلنا: أن إقامة جدار عازل، أو: فاصل بالأحرى، بين دولتين، و/أو شعبين، و/أو كيانين بشريين، ليست مسألة شكلية أو هيكلية.. بل، هي، في حقيقة الأمر، تعود، في ما تعود إليه، إلى خلفيات فلسفية، تستند إلى مفهوم "العلاقة بين الأنا والأخر"..
أيضاً، لا نغالي إذا قلنا: أن "مفهوم الجدار" إنما يرتبط بـ "مفهوم الحدود"، سواء كانت هذه الحدود قائمة بالفعل، أو مفترضة، في ما بين كيانين تنبني العلاقة بينهما على "الصراع"، كما هو حال الصراع بين "العرب.. وإسرائيل" عموماً، والصراع بين "إسرائيل.. والفلسطينيين" على وجه خاص.
يبدو قولنا الأخير، هذا، بوضوح إذا لاحظنا أن مسألة الحدود كانت، وما تزال، تعتمد ـ في ترسيمها ـ على علاقة "القوة" بـ "القانون" في أسس العلاقات الدولية.. إذ أن الحدود كانت دائماً مصدر توترات وصراعات بين الدول، كما بين الشعوب؛ بل، وكانت حجوم هذه الحدود، وسماكتها، مرتبطة بنوعية الكيانات على الجانبين.
ففي زمن الإمبراطوريات، لم تكن هناك حدود ذات خط واضح ودقيق، بل كانت هناك مناطق حدودية.. ولم تكن الحيازات الأرضية مبنية على خرائط، بل، على الأقل، كانت مقفلة بإحكام بـ "الفواصل"، وكذا بـ "النقاط العسكرية"؛ أي: بـ "الجدران الفاصلة و/أو العازلة"، كتعبير عن حال عدم التواصل والانغلاق. ومع تقدم الإنسان في التاريخ، ومع تمكنه من حلول مشكلات كثيرة خاصة بالتواصل بين البشر، ومع تطور الأدوات التقنية (التكنولوجية)، لهؤلاء البشر.. كان التوجه، المتواكب مع كل ذلك، هو: تجاوز الانغلاق، وتخطيه، عبر المحاولات الدائمة لـ "تجاوز الحدود" في اتجاه العالم.
بل، إن الأمر الجدير بالـتأمل والانتباه، في آن، هو: أن كل حضارة هي واقعة، شاءت أم أبت، في مجرى التطور الإنساني التاريخي؛ وبالتالي، ليس عليها أن تختبئ خلف "الحواجز".. بل، على العكس، عليها أن تتوجه نحو "التواصل". فهذا التواصل، هو الذي يمنح الحضارات حياتها وتجددها، ويمنع عنها التحجر، هذا إن لم نقل: "التجمد" في التاريخ.
هنا، لنا أن نصل إلى نقطة مهمة تخص حديثنا هذا..
عندما يكون مجتمع في طور الانحدار وفقدان القدرة على الخلق والإبداع، عندها فقط يسارع إلى التمترس خلف الجدران.. تماماً، مثل ما كانت تفعل الكيانات القديمة، التي كانت تحتمي بالجدران (القلاع، أو الأسوار.ز إلخ)، من الأخر.. ولنا أن نلاحظ: أن السبب المعلن، قديمأ، كان "الخوف من الأخر". وهو، بالتالي، كان أكثر وضوحاً، وصراحة، من ما يمكن أن يعلن عنه هذه الأيام، أي: "منع الإرهاب".
نقطة أخرى في الموضوع، تخص كافة الظروف والملابسات التي نعاصرها في الراهن.. ففي زمن العولمة، التي اخترقت كل الحدود، عبر: الإعلام، ورؤوس الأموال، والأفكار، والسلع، من دون القدرة على ضبط إيقاعها بواسطة الحدود؛ بل، في زمن انهيار الأسوار والجدران بين الشعوب (انهيار جدار برلين، أو هدمه بالأحرى).. في مثل هذا الزمن، تبدو الحدود وكأنها مجرد أثار في جسد الطبيعة قام بها التاريخ، على امتداد مسيرته الطويلة.
ترى.. ما هي العلاقة بين ذلك، وبين ما تقوم به إسرائيل من وضع سياج إلكتروني، مقام على "جدار أسمنتي"، على امتداد مئات الكيلومترات، ليفصل بينها وبين الفلسطينيين(؟!).
ثم، ألا يمكن أن يمثل ذلك اختباء وراء الجدار، والتمترس خلفه، أكثر من مجرد عزل للفلسطينيين، أو الانعزال عنهم(؟!).
في اعتقادنا، أن الأساس في الاقتراب من مثل هذه التساؤلات، وما قبلها، هو الاقتراب من طبيعة إسرائيل، ودورها الذي قامت من أجله على الأرض العربية في فلسطين.
منذ أكثر من عقد من الزمان، وفي كتابه: "سلام عابر ـ 1993"، يقول جوزيف سماحة بأن: "إسرائيل كيان ودور. قد يكون التعايش مع الكيان صعباً بعض الشيء، إلا أنه ممكن.. أما التعايش مع الدور فهو مستحيل، لأنه بالضبط دور عدواني لا يهدف إلى التوسع الجغرافي فحسب، بل أساساً إلى تجبير المحيط العربي لصالح قوى أجنبية، وتركه مستباحاً أمامها، لا مجال، مع هذا الدور، للحديث عن مستقبل عربي يدير وجهه له، لأن طبيعة الدور تقضي بعدم السماح بإدارة الظهر، وتتدخل ليس للمشاركة في صياغة هذا المستقبل، بل لتحديد وجهته ومضمونه على قاعدة إخضاعه لقوى أخرى ولنفوذها وطموحاتها".
لا شك أن في هذا التقرير بعضاً من الحقيقة. إنه ذلك "البعض" الذي يدل عليه أن الإستراتيجية "الإسرائيلية" قد تبدأ بفلسطين ولكنها لا تنتهي بها: إن ضرب حركة المد العربي الوحدوي (في: العام 1967)، وتدمير المفاعل النووي العراقي (في: عام 1981)، واجتياح لبنان (في: العام 1982)، وتهديد منابع النفط، وغيرها... لا يمكن أن يقنعنا بأن الهدف الصهيوني الأصيل هو الاستيلاء على أرض فلسطين وكفى، ذلك خطأ بِين لا يمكن أن نقع فيه.
إن إعاقة تطور الشعب العربي نحو النهوض، هو الهدف، بل المصدر الأساس للإستراتيجية "الإسرائيلية" التي تعتمد، ضمن ما تعتمد عليه، في بناء مستقبلها الخاص، التحكم في ـ بل تدمير ـ المستقبل العربي.. ومن أجل هذا الهدف (إعاقة التطور العربي) تتنوع الأساليب لتحقيقه؛ فيصبح اغتصاب الأرض أسلوباً، ويصبح زرع الأنظمة "المتحالفة" مع إسرائيل أسلوباً ثانياً، ويصبح التغلغل الاقتصادي والثقافي من خلال المؤسسات الاحتكارية أسلوباً ثالثاً، بل ويصبح تهدئة الصراع وتسويته، بالصورة التي يمكن ملاحظتها الآن، أكثر الأساليب توافقاً مع المتغيرات الحاصلة على الساحة الدولية راهناً.
هذا وإن كان يعني أن المسألة الفلسطينية تبعاً للهدف الصهيوني الأصيل، بؤرة الحركة الإسرائيلية داخل المنطقة العربية.. فإنه يعني، أيضاً، أن الخطأ العربي الكبير في الصراع مع إسرائيل كان قد تمثل في "تركيز" القضية الفلسطينية إلى الدرجة التي أصبحت فيها هذه الأخيرة قضية العرب الأولى، بل المركزية.
لا.. ليست "القضية الفلسطينية" قضية العرب الأولى أو المركزية. إنها، في أقصى تقدير، قضية هامة، ولكنها فرعية.. إن القضية الأولى والمركزية للعرب، هي "التدرج نحو النهوض العربي"... هذا هو ردهم الكبير على المشروع المضاد لهم، والذي تتقاطع عنده قضاياهم في التنمية، والتحديث، والاستقلال الفعلي، والإلغاء العقلاني والطوعي للحدود المفتعلة والفاصلة بينهم، بل ودخولهم "العصر" عبر تطوير علاقاتهم الداخلية.. الخ.
هل هذا مجرد كلام نظري(؟!)..
لنعد إلى حقائق التاريخ لنرى، بل، ولنعد التذكير بها، ففي الإعادة إفادة كما يقولون..
أول وأهم هذه الحقائق أنه عندما وضعت الصهيونية مخططات إقامة دولتها على الأرض العربية، واختارت فلسطين، (في: مؤتمر بال عام 1897)، لم تكن أي دولة عربية قائمة في الوطن العربي، لا في فلسطين ولا في غير فلسطين بما تعنيه الدولة من سيادة على الأرض، بل كان الوطن العربي إما جزءاً من الدولة العثمانية وإما أجزاء يحتلها الأوربيون.
يعني هذا، في ما يعنيه، أن الحقيقة التي يجب أن لا نغفل نحن العرب عنها، أن المشروع الصهيوني (الذي تجسده إسرائيل حالياً) ظهر أساساً قبل حفر قناة السويس وتبلور قبل وجود الاتحاد السوفياتي، ووضع قبل اكتشاف النفط في المنطقة العربية، وتجسد قبل أن تحصل كافة البلدان العربية الموجودة راهناً على استقلالها. إن هذا المشروع ظهر لتكريس شطر المنطقة العربية إلى قسمين والإسهام في تجزئتها وتفتيتها وتكريس السيطرة على التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيها، لصالح تكريس المصالح "الغربية" التي ينتمي لها.
ويعني هذا، أيضاً، أن المشروع الصهيوني كان قد ارتبط بالمتغيرات الدولية، بدءاً من ظهور الصهيونية كرد فعل على حركة التنوير (الهاسكالا)، التي انتشرت بين يهود العالم، لتحضهم على الاندماج في الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، إلى ارتباط الصهيونية و"إسرائيل" بالقوة الاستعمارية الكبرى، والانتقال من الاعتماد على بريطانيا إلى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية.
باختصار... لم تدق "إسرائيل" كـ "إسفين" في قلب المنطقة العربية، إلا من أجل شطرها إلى قسمين والتحكم في ديناميات تطورها. إنه الهدف الاستراتيجي الذي اكتسب عمقاً عندما أصبح يتمحور راهناً حول: "منع نشوء أي قوة عربية أو إسلامية ذات حد من الاستقلالية في قرارها السياسي، يشجع على تكوين دينامية توحيد إقليمية، تقلب المعادلة "الجغراسية" (الجغراسياسية)، في حوض المتوسط والعالم"..
هذا هو جذر الموقف، كل الباقي فروع متعلقة به وتتغذى منه، وكما هي طبيعة الجذور، تبقى مطمورة ساكنة، بينما لا تكف الفروع عن التراقص في الهواء فخورة بأوراقها الخضراء وأزهارها الملونة، تظن أنها ذوات استقلال ولا تكف عن الحفيف وجذب انتباه المارة.
لا بأس.. المهم ألا تلهينا عن الجذور.
والواقع، أن هذا الجذر ذاته، هو الذي نعتمد عليه فيه "الحكم" على ملامح المرحلة الراهنة في "التاريخ العربي الحديث"، بأن الاستهداف من عملية التسوية يتمحور حول أن تتمكن إسرائيل من اكتساب "القبول والاعتراف والشرعية" من العرب، دون أن تضطر إلى التنازل ـ حتى ـ عن "سيادتها" على أغلب الأراضي العربية المحتلة. إن الغريب في الأمر، هنا، أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم، التي لا توجد لها حدود دولية معلنة، وتحظى ـ رغم هذا ـ باعتراف جيرانها "بشرعيتها وحقها في الوجود والأمن".
من هنا، يبدو أحد المنطلقات الحقيقية لما تنادي به إسرائيل من ضرورة إحلال "السلام"، ومحاربة "الإرهاب" في منطقة "الشرق الأوسط"، هذا "السلام" الذي لا يقتصر حسب المفهوم "الإسرائيلي" ـ على مجرد الاعتراف القانوني بوجودها في المنطقة العربية، وعلى حل المشكلات المرتبطة بصراعها مع العرب، فهي كما يعلن قادتها تستطيع الاستمرار بدون ذلك.
بل لابد ـ في نظرها ـ من قيام تعاون إقليمي في "الشرق" يكون لـ"إسرائيل" دور فاعل فيه، وهذا يتطلب ـ حسب ذات الإدراك ـ إحداث "نقلة" في العلاقات بين "العرب.. وإسرائيل"، تنهي المقاطعة العربية، وتفتح صفحة جديدة على أسس مختلفة.
وهكذا، يبدو أن "الطموح الإسرائيلي" يتمحور في هذه المرحلة، حول هدف: الدفع في سبيل إقامة نظام "إقليمي ـ لا قومي" في منطقة الشرق الأوسط: ليس، فقط، من أجل زيادة نفوذ إسرائيل في واشنطن، وتعزيز مركزها كشريك في المشروع الأمريكي تجاه المنطقة العربية، بالنظر للخدمات التي يمكن أن تقدمها لصالح هذا المشروع.. وإنما، أيضا،ً لأن قيام مثل هذا "النظام" سيعطي عناصر قوة لـ "إسرائيل"؛ إذ أنها سوف تتمكن من تطوير إمكانياتها الاقتصادية والعلمية والتجارية بسبب المجال الحيوي الواسع للمنطقة، وهذا، بالطبع سيكون على حساب العرب وثرواتهم ومستقبلهم.
هذا يعني، أن الهامش المتاح لتقديم "إسرائيل" التنازلات للعرب أقل بكثير من مطالب الحد الأدنى للحقوق "العربية والفلسطينية"؛ وحتى هذه التنازلات لن تكون إلا على سبيل المقايضة، وفي مقابل الحصول على مكاسب كبيرة في عمق المنطقة العربية حيث لن يكون قيام نظام جديد، على أنقاض "النظام العربي"، إلا بداية لها وحسب.
وماذا بعد(؟!).
وبعد.. يصبح من المنطقي القول: أن فلسفة الجدران العازلة لا تمثل، ولا يمكن أن تمثل، تراجعاً عن إستراتيجية التوسع الإسرائيلية.. بشرط، أن نلاحظ: أن التوسع في المرحلة التي نعاصرها في الراهن، لا يعتمد على السيطرة على الأرض، بقدر ما أصبح يتمثل في الهيمنة على المصالح الإستراتيجية. أضف إلى ذلك، أن السيطرة على الأرض أصبحت غير مبررة إلا من حيث القياس إلى هذه المصالح.
في هذا الإطار، يمكن أن نفهم فلسفة "الجدران العازلة" الإسرائيلية..
بل، يمكن أن نفهم التمثل الإسرائيلي بالمثال الأمريكي: أي التحول إلى جزيرة لها من الأذرع العسكرية الطويلة ما يمكنها من الوصول إلى مصالحها الإستراتيجية.
الفارق الوحيد، هنا، بين المثال والصورة، أن الأول يقدم نفسه كـ "زعامة" على المستوى الدولي؛ في حين يقدم الثاني نفسه، على المستوى الإقليمي.