" رئيس حرب " هو اللقب المحبب الى جورج دبليو بوش . إنها الحرب التي يقودها بعناد ضد الإرهاب على مدى العالم برمته . فهو يجزم في كل مكان يقف فيه خطيباً – وآخرها في الجمعية العامة للامم المتحدة – بأنه يكسب الحرب رغم كل الصعوبات التي تصادفها قواته في العراق وأفغانستان .
هل يكسب بوش الحرب فعلا ؟
ليس هذا قطعا رأي منافسه جون كيري . بالعكس ، يعتقد المرشح الديمقراطي للرئاسة ان " غزو العراق خلق أزمة ذات أبعاد تاريخية ، واذا لم نغيّر مسارنا فأمامنا إحتمال حرب بلا نهاية " . اما بالنسبة الى كبار القادة الاستراتيجيين في العسكرية الأمريكية ، والى الجنرالات البارزين المتقاعدين فإن بوش خسر الحرب كليا او كاد . ففي تحقيق لافت في صحيفة " غارديان " البريطانية بقلم سندي بلومنتال ، احد كبار مستشاري الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون ، يجزم الجنرال المتقاعد وليام اودوم بأن بوش خسر حربه ضد " القاعدة " ، بل " أننا اليوم ، في المسار الذي يحتوينا ، نحقق لبن لادن أهدافه " !
جفري ركورد ، أستاذ الاستراتيجيا في كلية الحرب الجوية الأمريكية ، يقول بلا مـواربة : " لا أرى مخرجاً . لقد سلكنا هذه الطريق في الماضي . انها تدعى الفتنمة . فالفكرة القائلة بأنه سيكون لدينا قوة عسكرية عراقية مدربة وقادرة على هزيمة عدو لم نستطع نحن ان نهزمه هي مجرد تضخيم للخيال . أفراد تلك القوة سوف يُلطخون بعار التلازم مع المحتل الأجنبي . في الواقع ، لقد وظّفنا مالا ووقتا في مشروع " بناء الأمة " في فيتنام أكثر بكثير مما فعلنا في العراق ".
اندرو تريل ، الأستاذ في معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الحرب البرية الامريكية واحد ابرز الخبراء في الشؤون العراقية يقول : " لا اعتقد انه في وسعنا قتل المقاومة . فقد برهنت عن قدرة ذاتية على إعادة إنتاج نفسها بسبب وجود ناس مصممين على الحلول محل رفاقهم الذين قتلوا . إن الثقافة السياسية السائدة باتت أكثر عداء للحضور الأمريكي . وبمقدار ما نمدّد إقامتنا هناك ، بمقدار ما يترسخ ذلك الموقف المعادي لنا ".
هذه الصورة القاتمة لمستقبل الحضور الأمريكي في العراق وجدت طريقها أخيرا الى عقول مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ النافذين :
السناتور شاك هاجل ، عضو لجنة الشؤون الخارجـية في المجلس يعترف بأســى : " كلا ، لا اعتقد اننا نكسب الحرب ، نحن في حرج بل في بلاء شديد."
السناتور لندسي غراهام يعتقد بأن " الوضع الأمني سيتدهور كثيرا قبل ان يجد سبيلا الى التحسن . ويبدو اننا سنكون بحاجة الى ضخ المزيد من القوات ".
السناتور ريتشارد لوغار ، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ ، سأله تلفزيون " آي بي سي" لماذا لم يُصرف الاّ مبلغ واحد بليون / مليار دولار فقط من أصل 18 بليونا مخصصة لإعادة إعمار العراق ، فأجاب بلا تردد : " انه عجز الإدارة ".
السناتور جون ماكين ، ذو النفوذ الواسع في الحزب الجمهوري وأوساط الفئة الحاكمة كان أكثر صراحة . فقد جزم بأن لا سبيل الى إجراء إنتخابات في العراق طالما مدن عدّة أصبحت خارج سيطرة القوات الأمريكية . لذلك دعا الى إرسال ما لا يقل عن تسعين الف جندي إضافي من أجل السيطرة على المدن العاصية قبل آخر السنة الجارية .
كل هذه المواقف ، مدعومةً بإزدياد نشاط المقاومة العراقية وإلحاقها المزيد من الخسائر بصفوف القوات الأمريكية ، حَمَل كيري اخيرا على حزْم أمره بأن جَعَل موضوع العراق أساسا في حملته الإنتخابية كونه " الفشل الأكبر لقيادة بوش والخطر الاعتى على الأمن القومي الأمريكي ".
هذا الكلام وغيره من العيار الثقيل تلّفظ به كيري في هجوم غير مسبوق بكثافته وحدّته وتفصيله ضد سياسة بوش العراقية ، أطلقه في جامعة نيويورك مطلع هذا الأسبوع مستبقاً خطـاب الرئيس الأمريكي امام الجمعية العامة للأمم المتحدة بغية إحراجه . كيري ضمّن خطابه الصاعق تصوره لكيفية معالجة الورطة العراقية في أربع خطوات رئيسة :
• دعوة بوش الى عقد قمة مع قادة الدول الرئيسة وقادة الدول المجاورة للعراق على هامش إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لتدارس سبل مواجهة الوضع الأمني المتردي في بلاد الرافدين .
• طرد مدنيين عاملين في وزارة الدفاع ( يعني بول وولفوفيتز ، نائب وزير الدفاع دونالد رامسفلد ، وغيره من كبار الموظفين الموسومين بصبغــــة " المحافظين الجدد " ) .
• حشد الدعم الدولي لإجراء إنتخابات العراق في موعدها.
• وضع خطة واضحة تؤدي الى بدء إنسحاب القوات الأمريكية الصيف المقبل بغية " إعادة أفراد قواتنا الى بيوتهم في غضون السنوات الأربع المقبلة " ..
ختم كيري خطابه بتحدي زعم بوش القائل " إن حرب العراق جعلت أمريكا أقوى والعالم أكثـر أمنا " ، فقال جازما: " الجواب هو لا . فالخطر النووي تصاعد في العالم ، ونادي الإرهابيين العالمي توسّع ، والتطرف في الشرق الأوسط يزداد ، ونحن قسّمنا أصدقاءنا ووحّدنا أعداءنا ، وموقفنا في العالم بات في أدنى درجاته ".
أهم ما في خطاب كيري أنه إتخذ ، بعد طول تردد ، موقفا حازما من سياسة بوش في العراق . قبل الخطاب كان مؤيدا لأهداف هذه السياسة وزاعما انه يستطيع تنفيذها بفعالية ونجاح أفضل من منافسه . أكثر من ذلك : أصبح لكيري موقف واضح من الحرب ذاتها . فهو يعتبرها غير مجدية وبلا نهاية ويقتضي وقفها بوضع جدول زمني للإنسحاب منها.
هكذا أصبح أمام الناخبين الأمريكيين خياران متمايزان لمرشحين متمايزين في أمور عدّة : واحد يدعو الى الإستمرار في حربٍ يزعم انه يكسبها ، وآخر يدعو الى الإنسحاب منها لأن أمريكا بدأت تخسرها.
لقد ظّن كيري سحابة الأشهر الثلاثة الماضية أن التكتيك الإنتخابي الأفضل هو في التركيز على سجل بوش المشبوه من حيث تهربه من الخدمة العسكرية في شبابه ، في مقابل سجله المشرف كضابط مقاتل نال الكثير من الأوسمة في حرب فيتنام ، ليكتشف ان معظم الرأي العام لا يتوقف كثيرا أمام أحداث الماضي وانه مأخوذ بمنطق بوش حول خطر الإرهاب وقدرته على مواجهته في الخارج قبل أن تضطر أمريكا والأمريكيون الى مواجهته في الداخل . عندها ، وبعد أن ضاعفت المقاومة العراقية عملياتها وازدادت خسائر الامريكين على نحوٍ مقلق ، إستدار كيري 180 درجة ليجعل من العراق موضوعا مفضلا لحملته الإنتخابية وليهاجم سجل بوش الفاشل فيها.
أقل من أربعين يوما تفصل المرشحين اللدودين عن موعد المعركة الفاصلة في 2 تشرين الثاني / نوفمبر المقبل . إنها أيام عصيبة بل تاريخية يعيشها الأمريكيون وسائر العـالم بأعصابهم لأنها تمس الناس جميعاً ، في الولايات المتحدة كما في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا والشرق الأقصى ، بتداعياتها في شتى الميادين . فالحرب على الإرهاب أضحت حرباً عالمية ذات أبعاد أمنية وإقتصادية وسياسية وإجتماعية ، تنعكس بمقادير متفاوتة على معظم الشعوب والدول ذات الصلة بأحداثها وتطوراتها.
في هذه الحرب يبدو كيري – على علاّته – أهون الشرين . فهو يخطط للإنسحاب من حرب يخشى أن تصبح بلا نهاية ، في حين يصر بوش على الإستمرار فيها الى ما لا نهاية أيضاً.
كم هو مقلق ومحزن في آن أن يكون العالم محكوما بالإنتظار وبالمفاضلة أيضاً بين رجلين ، أحدهما مشكوك في إتزانه وأخلاقه ، والآخر مشكوك بخبرته وصدقيته.