في واقع الأمر السلطة الجزائرية لا تعي بشكل جلي أبعاد اعتماد قانون يقولب الأسرة بالقالب التغريبي المعلمن.وإن كنا نفهم مرامي هذا الانسياق المدروس ،نحو توظيف قانوني يأخذ الجانب المهم من المجتمع كعربون رضا الآخر الخارجي على حساب أجيال لاحقة ،وعلى حساب ذاكرة أمة عرفت رغم الأعاصير والرجَّات بأنها عصية على الخلخلة ،كما يصعب التعامل معها بالتحايل،أولي الأذرع .لو نتذكر ما نطق به الفريق محمد العماري منذ أكثر من عامين ،على أن الأصولية انهزمت عسكريا وهو تلميح لما كان يسمى الجيش الإسلامي للإنقاذ الذي يزعم بأن قانون الوئام المدني جاء نتيجة تقبل هذا الفصيل المسلح لخيار الهبوط من الجبل أو دكهم دكا في مغاراتهم .بيد أن نفس الأصولية لا تزال تسرح وتمرح داخل المجتمع.والتلميح بأن الأصولية لا تزال على قيد الحياة كما قال محمد العماري إشارة واضحة من أجل القيام بالواجب حيال هذه الأصولية التي لم يأت منها سوى وجع الرأس.وقد انطلق تغيير الواقع الأصولي منذ تاريخ 11 جانفي 1992 عندما أرغم الشاذلي بن جديد حفظه الله على الاستقالة.الذين أمسكوا برأس السلطة في 1992 عمدوا على تسخير كل ما هو متاح من أجل زحزحة المجتمع عن قيمه ومبادئه ومحاولة جرّه نحو فضاء يقال عنه حداثي باسم العلمانية تارة وباسم التراجع عما فعلته سنون الجبهة الإسلامية للإنقاذ وخطب علي بن حاج في مسجد السنة بباب الواد تارة أخرى.وكان أول ما سنَّه الإنقلابيون هو منع الرموز الدينية والمقصود هنا الحجاب في كل مرافق الدولة .وإلى اليوم لا يزال هذا القانون معمول به في بعض الدوائر حسب مرسوم تنفيذي أمضاه رئيس أول حكومة بعد الانقلاب على خيار الشعب الحر بلعيد عبد السلام .فالفتاة المحجبة لا تقبل بأن تكون سكرتيرة ولو كانت ملكة جمال العالم أو تحمل علم بلقيس.كذلك إصدار الوثائق الإدارية كجواز السفر وبطاقة التعريف لا يتم إلا وصورة المرأة بغير حجاب.وكانت هذه مقدمة أولية لتأصيل إيديولوجية التغريب والانتقام من كل ما هو إسلامي.وحتى الدستور المعدل في 1996 كان على أساس طمس كل ما له صلة بالإسلام السياسي وجر كل الأحزاب الإسلامية التي لا تشكل خطرا على السلطة بالانصياع نحو تغيير لوغو الحزب،وتحديث الخطاب الإسلامي بما يتوافق والدستور الجديد،وبما يتماشى والسياسة الجديدة الانقلابية.السلطة الفعلية اعتبرت ذلك نصرا،على أن مشروع المعارضة الإسلامية قد تم تحجيمه بالقدر الذي يسمح به القانون السلطوي.وتسمح به النظرة الجديدة للمجتمع.وهذا سمح للأحزاب المجهرية الفرانكومانية المتدمقرطة كذبا وبهتانا،إلى التموقع أكثر إلى جانب السلطة الفعيلة ومدها بكل النصائح من أجل القضاء نهائيا على كل ما له صلة بالمشروع الإسلامي أو حتى بالمصطلح الإسلامي.وما فعلته الجرائد المفرنسة في ضخ كل ما من شأنه أن يسهم في تجفيف ينابيع التدين.كان أضعافا مضاعفة ما فعله الأباء البيض في الجزائر إبان الاستعمار.حتى وصل الأمر بأحد الحاقدين من المخربشين بأن يتطاول على الرسول صلى الله وعليه وسلم.بل ذهب البعض إلى وصف كل مسلم جزائري بالمستعمر الغازي مادام يتكلم العربية ،وتدور بينهم مقولة مفادها "أن هؤلاء المسلمين جاءوا على ظهر بعير ونحن مستعدون بأن نرجعهم بالطائرة" ولكن نسوا أن الطائرة لم يخترعها هؤلاء الفرانكومان بل اخترعها أسيادهم الذين يدافعون عنهم باستماتة كبيرة.المطلب السياسي للفرانكومان هو تنحية كل ما يمت بصلة للجبهة الإسلامية للإنقاذ،التي أرعبت حتى فرنسا في عقر دارها.وأما المطلب الأيديولوجي هو تفتيت كل مظهر يقترب فقط من المشروع الإسلامي ،فضلا عن الإيديولوجية الإسلامية التي ترى فيها الشرذمة المتعلمنة بالوكالة أنها خطرا على الوجود كله وعلى المشروع الديمقراطي الكبير .فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والرجل الأخير" كتب في فصل له أن لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين .ومن المؤكد أن الفرانكومان الذين يعيشون بين ظهرانينا أو عفوا الذين نعيش بين ظهرانيهم يعرفون هذا الكتاب الذي يؤسس للحرية السياسية ،ويدعو إلى الحرية الاقتصادية الممثلة في الليبرالية.ولا ندري هل فهموا المغزى أن لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين؟.أما أن فهم الديمقراطية ينحصر فقط في رؤوسهم ،وتعني بأن يحكموا هم فقط فإذا امتدت لتشمل التيار الإسلامي تصبح الديمقراطية ديكتاتورية.ويأتي دور الأسرة الجزائرية في مشروع الفرانكومان مثله مثل مشروع الديمقراطية الذي يفهموه كما هو مرتبط بأحقادهم على الجبهة الإسلامية للإنقاذ عموما وعلى الحركة الإسلامية خصوصا.فالديمقراطية أن لا يصل إسلامي للحكم أبدا،والثقافة أن يتم القضاء على كل مظهر من مظاهر القرابة الأيديولوجية بالتيار الإسلامي .وهذا المقصود من تبني مشروع لائكي شامل يقضي على خصوصية إسلامية أولا ثم ينهي وللأبد فكرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ والتصويت لصالح المشروع الإسلامي.ورغم تصريحات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة حول مسألة الحريات الشخصية في بداية عهدته بأن ذلك مكفول للجميع "فمن أرادت أن تلبس الحجاب فلها ذلك،ومن أرادت أن تلبس الفيزو فلها ذلك" ..وللأسف التعامل مع مسألة الهوية الإسلامية أضحى في يد البعض ممن ينسخون من تصريحات الرئيس بوتفليقة ما يؤلب عليه الرأي الداخلي وهو الذي فاز بثقة أغلبية الشعب الجزائري.فقانون الأسرة الحالي المستمد جميع بنوده من الشريعة الإسلامية الذي تطمح إلى إلغائه بعض الجمعيات النسوية التي لم تستطع أن تكوّن أسرة .هو في الأصل فيصل بين عهد الأسرة المحافظة التي عرفت بها الجزائر على مدى قرون.وبين عهد سيكون للأسِرَّة غير الشرعية الدور الأبرز .وليس مبررا أبدا أن يتم السكوت على مثل هكذا شطحات هذه الشرذمة من الجمعيات النسوية التي تصف نفسها بأنها انتصرت على المشروع الأصولي ،وانتصرت على سلطة الرجل الذي يضرب المرأة بالمسطرة.فالرجل بالنسبة لهذه الجمعيات التي تنتمي للتيار الشيوعي البائد هو بيدق تستعمله لأغراضها فقط أما وأن يكون زوجا له بيت وأولاد فهذا غير مقبول.والرئيس عبد العزيز بوتفليقة هو في الحقيقة المخول قانونا ودستورا لوضع حد لمثل هذا المشروع الذي سيؤسس لمجتمع غير متماسك،ولمجتمع تتحكم فيه الفوضى الجنسية بعد أن سادته الفوضى السياسية.لأن القانون الذي يستعدي المرأة على الرجل ويجعل وكأن بينهما جبال من ثأر ،ويخرج الأسرة الجزائرية المحافظة عن منطلقها العقدي الأول الذي نافح لأجله الأمير عبد القادر وعبد الحميد ابن باديس وقاومت لأجله النخبة الأصيلة طوال سنوات هو قانون مبتور لا يمكن أن يكون في مجتمع كالجزائر.إن قانون الأسرة المراد تمريره هو في الأساس نكاية في التيار الإسلامي لا غير.وليس لأن الرئيس بوتفليقة سبق وقال عن إعجابه بالنظام التونسي الذي يعطي للمرأة سلطة أكثر ربما من سلطة الرجل.ويمنع الحجاب ،ويمنع التعدد.وكان حريا بالجمعيات النسوية التي تحرص على مستوى المرأة الإجتماعي أن تبحث عن صيغة جديدة من أجل تزويج الملايين من النساء العانسات.فالجزائر مشكلتها مع العنوسة والعزوبية وليس مع قانون يمنع التعدد .فالكثرة الكبيرة من الشباب لم يجدوا حتى واحدة فكيف بهم يبحثون عن التعدد.أما وأن القانون يراد به إخراج الأمة من جلدها الإسلامي وتعويضها بجلد فيه الجرب اللائكي.فنقول لمن ينافح من أجل قانون يشجع الأسِرَّة على الحلال،أن ذلك صعب التحقيق ولو مرر هذا القانون لأن الجزائريين في أبسط هزة يلجأون لأصلهم والأصل هو الإسلام.ألم تلجأ النسوة للحجاب في زلزال بومرداس؟.وعلى التحجج بأن القانون المعدل للقانون السابق أيضا مستمد من الشريعة الإسلامية فهذا غير صحيح.لأن توظيف النصوص وحملها على ما ليس منه يعد مخالفا للانسجام الذي تمتاز به الشريعة الإسلامية .وكما قيل "إذا رأيت شيئا تشمئز منه الأنفس فاعلم أنه ليس من الإسلام".. فهل الفرانكومان يعرفون الإسلام؟ أم يريدون تعليمنا حتى ديننا بعد أن فشلوا في تعليم أنفسهم معنى الديمقراطية؟.وهل إلغاء الولي بحجة أن المرأة أصبحت وزيرة وبالتالي لا يمكن أن تقبل بأن يتولى عنها من يزوجها .فهل هذه المرأة التي تتحدث عن نفسها أن لا حاجة لمن ينوبها عند الزواج .فهل بمقدرتها أن توقف العادة الشهرية التي قال فيها ابن سينا أن الذئب لا يقترب من المرأة الحائض.وهل تدري الجموع الفرانكو-لائكية ممن يريدون من المرأة أن تخرج عن فطرتها وتصبح متاعا رخيصا باسم العولمة والتحضر.أن العالم الغربي بدأ يراجع نفسه فيما يتعلق بالتفسخ والميوعة الجنسية ومكانة الأسرة.فأحد أقطاب العلم الإسلامي الدكتور أحمد القاضي في أمريكا برهن بالدليل أن الحجاب يقي المرأة من أمراض أولها سرطان الجلد الأسود.فالأطراف العارية التي تمسها الشمس تصاب بالسرطان على عكس الأطراف المغطاة .وهذا العالم الإسلامي نال جائزة لمدة خمس سنوات من طرف الرئيس الأمريكي الراحل ريغن.كل ما في الأمر وما يراد من ورائه باسم العولمة والديمقراطية هو قانون للأسِرَّة بدلا من قانون للأسرة التي لا يؤمنون بها نهائيا.ففاقد الشيء لا يعطيه……….

*

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية