يكاد النظام الرسمي العربي أن يكون إحدى ثمار الترتيبات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ، فبينما كان صناع الحرب يطوون صفحتها ليبدأوا عمليات إعادة بناء بلدانهم كان العرب يدخلون بسبب وجود الكيان الصهيوني آتون مواجهة لم يختاروها ولم يستطيعوا تجاهلها فأصبحت تحتل لعقود موقع " البند الأول " من أي جدول أعمال عربي مهم . وعندما انقسم العالم - كله تقريبا - بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي انحيازا واضحا كان العرب في مقاعد المتفرجين ، وباستثناء دول قليلة أقامت علاقات تحالف وثيقة مع الاتحاد السوفيتي ( كاليمن الجنوبي ) ، بقي العالم العربي يكره الولايات المتحدة التي تبلورت صورتها بوصفها الراعي الأكبر للمشروع الصهيوني ويرفض الشيوعية ولا يبحث عن طريق ثالث عربي الهوية بين الخيارين .
ولعل من مفاتيح فهم السمة الرئيسة للعقل السياسي العربي خلال حقبة النصف الثاني من القرن العشرين ما تلخصه قصة من المضحكات المبكيات ، فبعد قصص مصطنعة وأرقام مفبركة عن الخطر النووي الذي كان يشكله النظام العراقي المنهار قدم أحد المسؤولين العراقيين السابقين تفسيرا مثيرا لهذا الخطر العراقي مفاده أن صدام كان يتعمد بناء صورة غامضة عن ملف أسلحة الدمار الشامل العراقي ليخيف دول الجوار العربية في المقام الأول !! . وللتفسير وجاهته ، فالنظام الرسمي العربي قام منذ نشأته على " توازن الخوف " بين الأطراف التي عرف عنها التنافس على الزعامة في محيطها الإقليمي ، وهو تاريخ من الصراع الداخلي العربي العربي لم تكن حرب اليمن بدايته ، وقد لا يكون غزو العراق للكويت نهايته وبينهما الكثير ، وهذا الاستحقاق الأول .
الاستحقاق الثاني معرفي ويترتب على الأول ، فلدى الغرب ميراث فكري له صفة الرسوخ يستخدمه لتحليل سلوكيات الأمم الأخرى والتنبؤ بالمستقبل على السواء - وطبعا لا يعني استخدام مقولات هذا المنهج لتحليل بعض جوانب الواقع العربي قبول هذه المقولات - ومن أهم هذه المقولات أن الأنظمة السياسية ذات الطبيعة العقلانية أقل ميلا إلى اللجوء إلى العنف لحل مشكلاتها من الأنظمة اللاعقلانية . وهناك معايير غربية يعتبرونها لازمة للحكم على نظام ما بأنه عقلاني في مقدمتها أن يكون ديموقراطيا . وبطبيعة الحال ليس معيار العقلانية مجرد الادعاء أو التقليد الشكلي لبعض آليات اتخاذ القرار السياسي في الغرب بل يجب أن تتوفر - حسب تقديرهم - مؤشرات ذات طبيعة اجتماعية وثقافية على الديموقراطية ، وهو ما يفسر الإلحاح الغربي على قضايا تبدو للعقل العربي كما لو كانت محاولات للتدمير أكثر من كونها مساع للتغيير !
فبطبيعة الحال يملك أي نظام سياسي في العالم أن يشرع بآليات ديموقراطية : التمييز ضد المرأة وتجريم الشذوذ الجنسي و .. .. طالما رأت الأغلبية ذلك ، لكن هذه الأمثلة وغيرها عندما تتحول من " رأي الأغلبية " إلى " حكم الدين " يكون النظام السياسي قد تحول من نظام عقلاني إلى نظام لا عقلاني تتحكم الغيبيات في سلوكه السياسي ، ورغم أن هذا التصنيف تحكمه تحيزات خطيرة فإن العقل الغربي بالفعل عاجز عن التفرقة بين " اللاعقلانية النازية " وما يعتبره " اللاعقلانية الإسلامية " ، وليلتمس لي القارئ العذر في استخدام هذه التعبيرات القاسية التي يفرضها سياق التحليل ولا يتبناها الكاتب ولا يقر بصحتها .
من هذا المنظور يمكننا أن نفهم على نحو مغاير الحجم المبالغ فيه من الإدانة الذي يصاحب معاقبة شواذ جنسيا في عاصمة عربية أو إسلامية والإلحاح المبالغ فيه على ضرورة المساواة - والأدق هنا أن نضيف لفظ " الحسابية " - التامة بين الرجل والمرأة كمؤشر من مؤشرات قبول المجتمع الثقافة العقلانية . وليس في الأمر بر ولا إحسان ولا رغبة طوباوية في " ترقية العرب " بل هناك عالم جديد يتشكل أصبح استقرار العالم العربي من الشروط الموضوعية لميلاده .
وكارثة الحادي عشر من سبتمبر حد فاصل بين حقبتين لا صلة بين أي منهما في رؤية الولايات المتحدة للعالم العربي : الأولى كانت ترى الاستقرار من خلال جملة من المعايير التي تتسم بالنفعية الشديدة ( تدفق النفط - أمن الكيان الصهيوني - منع انتشار الشيوعية - .. .. . ) . وأيا كانت قراءتنا لأحداث الحادي عشر من سبتمبر فإنها كانت إيذانا ببدء الحقبة الثانية ، فبعد الصدمة وما تلاها من أخذ ورد أصبح ما عليه إجماع الشرائح الأكبر من النخبة السياسية الأمريكية أن قدرا ملموسا من الديموقراطية في العالم العربي أصبح شرطا موضوعيا لأمن نيويورك !!!
وما تشير إليه الشواهد أن الولايات المتحدة لا تشك في صحة توجهها بل يؤرقها اختيار النموذج الأنسب حتى لا تتحول المشكلة إلى كارثة . وطبعا لا أحد يقبل أن تجتاحنا التحولات لمجرد أن عاصمة غربية ما غيرت نظرتها لنا أو للكيفية التي ترى أنها ملائمة لتحقيق مصالحها .
ولا يعني كل ما سبق أن الأفكار المطروحة هي وحدها القادمة عبر المحيطات فهناك حراك فكري عربي هام لكنه يظل منفصلا عن آليات اتخاذ القرار ، فلا التحول الرأسمالي المحدود في بعض الأقطار العربية يبشر بميلاد تيار فكري ليبرالي ذي رؤية شاملة ، ولا أدى اعتماد الخيارات التي تؤكد مركزية دور الدولة في الاقتصاد في أقطار أخرى إلى نشوء تيارات يسارية فاعلة في الشارع العربي ، بل إن تبني بعض الأنظمة العربية الخطاب القومي في صيغته الأكثر تشددا لم يمنع من أن تمتلئ معتقلاتها بالسياسيين القوميين !! .
وطالما بقيت " الدولة العربية " تريد رأسمالية بلا ليبراليين واشتراكية بلا يساريين وعروبية بلا عروبيين و .. .. فسوف يتكرس تحول السياسة العربية إلى " إدارة " لا مكان فيها للاختيار بل تقوم على الإملاء أيا كانت اللافتة الأيدلوجية وأيا كان الشكل السياسي للدولة ( جمهورية - مملكة - سلطنة - إمارة ) . ولعل هذه السمة البنيوية هي ما أثمر ظواهر مثل " الاقتصاد السري والسياسة السرية وصولا إلى " ثقافة السرية " حيث يهرب الناس إلى نفق مظلم يتخيلونه " فضاءً " يعيشون فيه ما حرمهم منه البناء السياسي المغلق .
والمشكلة أحيانا تبدو كما لو كانت أعمق بكثير من المفاضلة بين الأفكار المطروحة على الساحة والأوزان النسبية لأتباعها أو حتى وجاهة مقولاتها ، إذ يستشعر المواطن العربي أن المشكلة هي في حقيقتها مشكلة جدوى ، فما معنى أن أقيم ما هو مطروح على الساحة لأختار لافتة أقف تحتها إذا لم يترتب على هذا الاختيار حق أصحابه في الدعوة لأفكارهم ومنافسة الآخرين في مضمار محدد وفق قوانين توضع لتحترم ؟
وليس من قبيل الإفراط في التشاؤم القول بأننا خرجنا من صراع القوى وقد تحطمت قوانا فمفهوم القوة الذي ظل سائدا في المنطقة العربية طوال العقود الماضية لم يكن يعني إلا المعنى العسكري المحض للقوة عسكريا وأمنيا ، فالمؤسسات العسكرية في كل الأقطار العربية أقوى المؤسسات وأكثرها انضباطا وتحظى بالاهتمام الأكبر ربما بلا منافس على الإطلاق ، وللمفارقة لم يؤد هذا لضمان الأمن العربي المحاصر بتهديدات عديدة . أما الأفكار فظلت مجرد مقولات لم تختبر في معتركات سياسية حقيقية تنضجها وتساعد على بلورتها عبر تجارب عملية ، ولذا فليس غريبا ألا توجد اشتراكية عربية أو ليبرالية عربية ، فهي في وجودها النخبوي مجرد ترجمة عربية لأفكار غربية كأنها مقتنيات متحف فكري مفتوح !!
ولأننا لم نعرف المفهوم الشامل للقوة اقتصاديا وتقنيا وثقافيا فإننا لم نسع جديا لامتلاكها - نجح المسعى أو لم ينجح - وما ننتجه بالمعنيين المادي والمعنوي لا يعبر عن قدراتنا ولاعن اختياراتنا ولا عن احتياجاتنا ، وما حققناه لم يكن المأمول ولا الممكن !! . ويخطئ من يتصور أن حال النظام الرسمي العربي مردها إلى غياب الإرادة السياسية وحسب ، فهناك على مستوى أكثر عمقا حلقات عديدة مفقودة منها : الشعور بوجود تحدي تقابله استجابة ، فلا الفجوة التقنية ولا الأزمة الاقتصادية ولا الهيمنة السياسية الغربية تشكل للعقل العربي تحديات حقيقية يجتهد لتجاوزها بل هناك محاولات للالتفاف وتأجيل الاستحقاقات لأطول أمد ممكن .
وهناك الغياب المزمن لمفهوم واضح لما يمكن أن نسميه " المصالح العربية الحيوية " وهو مفهوم ثقافي سياسي في المقام الأول ليس لدينا بشأنه إلا محاذير أمنية بعضها تجاوزه الزمن وما زال يتحكم في العقلية العربية ، وما يشهده الملف السوداني من تطورات كبيرة أكثر النماذج تعبيرا عن هذه الحقيقة . وبينما تغرق القارة الأوروبية رغم تبايناتها اللغوية والمذهبية والثقافية والعرقية الكثيرة في نقاشات عميقة حول إطار للعمل المشترك لا يوجد مشروع عربي واحد جاد للتعاون الجماعي ، والأمر يتجاوز بعده السياسي المباشر ليشير إلى قناعة راسخة باستحالة فتح الباب للنقاش حول " أفكار " لأن أسئلة الهوية والمستقبل والمصير هي - تقريبا - بلا أجوبة .
وبطبيعة الحال لا يعني ذلك الحكم بالإعدام على العقل العربي وما يقدمه من اجتهادات ، ولا يعني إنكار الهوية الثقافية العربية ، ولا يعني أيضا تجاهل التيار السياسي الأكبر حجما الأكثر تنظيما الأقرب إلى امتلاك رؤية ذات ملامح واضحة وهو التيار الإسلامي لكنني آثرت التعامل معه بمعزل عن الصورة العامة للواقع العربي لأسباب تحليلية محض . فالتيار الإسلامي نشأ واكتسب أنصاره في المقام الأول كنوع من الاحتجاج مارسته الشرائح المتعلمة ونصف المثقفة على تغييب " الفكر " عن ساحة " العمل " ، ولكنه احتجاج يعكس حيوية المجتمعات مقابل شيخوخة النخب الرسمية أكثر مما يعكس وصول الفكر مرحلة النضج والاكتمال ، فإدراك المقومات الرئيسة للهوية شرط من شروط تحديد بوصلة الاختيار لكنه ليس الشرط الوحيد إذ يحتاج النجاح إلى إدراك يتسم بالقدر نفسه من الوضوح للدوائر المتداخلة التي يتم فيها الفعل السياسي محليا وإقليميا وعالميا ، وهو ما يفتقر إليه التيار الإسلامي إلى حد بعيد .
وأكثر المشكلات الفكرية عمقا عند هذا التيار الخلط بين : الهوية والأيدلوجيا والسياسية ، فالهوية محصلة تفاعل طويل بين عوامل كثيرة ( دينية - ثقافية - اجتماعية - اقتصادية - لغوية ) وهي ليست ثابتة بل تطرأ عليها تحولات وهي قادرة على تقديم إجابات عن أسئلة ثقافية في المقام الأول . أما الأيدلوجيا فتكاد تكون نقيض السياسة فبينما تعد السياسة مفاوضة ومواءمة وسعيا لتحقيق الممكن لا تقبل الأيدلوجيا ذلك وتبدأ من امتلاك القول الفصل المطلق ، وهي النقطة التي تنتهي عندها السياسة ! . وأكبر خطيئة يرتكبها الإسلاميون - ربما بقدر خطورة خطيئة ممارسة العنف - أن يقعوا في هذا الخلط فيجعلوا الهوية المعيار الوحيد لاختياراتهم في السياسة ، أو يحولوا الإسلام إلى أيدلوجيا ، وهي خطايا يرتكبونها حتى الآن .
وفي ضوء أن غياب الممارسة السياسية عربيا كرس حقيقة أن التيار الإسلامي هو صاحب المشروع الفكري / السياسي الأكثر انتشارا ، يكون من الأهمية بمكان التوقف معه كخيار مطروح في عالم صراع الأفكار . والمشكلة الأكثر حساسية في المشروع الفكري / السياسي لهذا التيار الرغبة في استخدام آليات " الإدارة " لهدف " إعادة التأسيس " وهو ما يجعل الغرب يبحث دائما عن سقف ليعملوا تحته ليضمن ألا يستخدم صندوق الانتخابات لإحداث انقلاب ثوري وفي النموذج التركي تمثل المؤسسة العسكرية صمام الأمان الذي يمنع هذا الاحتمال ، ولا حاجة هنا لتكرار حقائق بدهية كالتذكير بأن الموقف الغربي ليس محايدا ولا بريئا على الإطلاق لا من الإسلام كدين ولا من المسلمين ولا من الحركة الإسلامية ، لكن التحليل ينصب أساسا على المواقف السياسية لا المشاعر .
نحن إذن على أعتاب صراع أفكار لكن الطرف الأكثر حضورا فيه هو بالقطع التيار الإسلامي وتلك إحدى الحقائق التي يسوقها البعض مبررا لتأجيل أي تحول ديموقراطي ، ويخاف منها البعض الآخر خوفا حقيقيا .
وبعد
ففي ظل المأزق الحاد الذي يعيشه التيار القومي بعد سقوط النظام العراقي وتحول النظام الليبي إلى أفريقيا ، يبقى التيار الليبرالي . ورغم وجود دعوات نخبوية لتغيير ليبرالي لكنه أمر سيظل مرهونا بسياقين : ثقافي عام تفرضه صورة الليبرالية في الثقافة العربية كمنتج ثقافي غربي - أمريكي في نظر الكثيرين - وسياق سياسي تفرضه حقيقة أن " الدولة المركزية " بشكلها التقليدي تتراجع في العالم كله - تقريبا - إلا المنطقة العربية . وكل تحول ديموقراطي إنما يأتي في النهاية لملء فراغ تتخلى عنه الدولة طواعية ليصبح مساحة اختيار .
وكلما اتسعت مساحة الاختيار اتسعت مساحة نمو الأفكار .