السيد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة اقترح على العالم تعريفا محدداً للإرهاب وأردف قائلاً "أرجو أن يرضينا هذا التعريف جميعا"، والتعريف الذي انتهت إليه عبقرية الأمين العام للأمم المتحدة السيد عنان بسيط فعلاً ولا يحتاج لأكثر من وصفه بالمريح الفسيح في ذات الوقت، فالسيد عنان اختصر عليه وعلى العالم الدخول في ورشة مطوّلة قانونية وثقافية وسياسية وما شئت من التصنيف وهو لا يطلب الكثير منا في المقابل فهو قد انبرى طالباً فقط أن نوافقه لأن تعريفه يرضي الجميع على حد أمله!

تعريف السيد أنان بسيط ويقول في صورته المختصرة الموصوفة آنفاً بأن الإرهاب "هو كل عنف يطال المدنيين" وانتهى التعريف، وهذا التعريف البسيط السلس بدوره قد أغرى واستتبع من السيد عمرو موسى أمين الجامعة العربية موافقة سلسة أيضا وربما حسب ظنه هو بدوره أيضاً ، وإن كان الرجل لم يقطع حكماً وهذا للإنصاف فإن سلاسة الموافقة المبدئية تلك وفي ظنها كانت أيضا موازية لسلاسة التعريف ذاته وربما رداً عليه بالمثل ! ، لكنَّ هذه السلاسة الغريبة في الموافقة والسلاسة الأغرب في الاقتراح وبعيداً عن موافقة أو مخالفة تستدعي نظراً وتأملاً لا شكَّ في ذلك عند المراقبين فضلاً عن أصحاب الخبرة والرأي.

لماذا استدعاء هذا النظر فضلاً عن الحذر؟

الجواب يقتضي أولا منا تذكّر تلكؤ الإمبراطورية في حضور أي اجتماع أممي فضلاً عن إبداء الموافقة أصلاً في قيام هكذا حضور برعاية الأمم المتحدة من أجل الوصول إلى تحديد مصطلح بمعايير واضحة في موضوعة الإرهاب هذه وحتى الساعة ، كما لا بدَّ أن نستدعي ذاكرة عامرة بعشرات الأدلة على اختطاف الإمبراطورية لحق سعر صرف هذا المصطلح لصالحها ومصالحها فقط دون أيِّ حاجة كما تظنُّ لا لتبرير ولا لتفسير حينما تفعل ذلك !، حيث اختصرت إمبراطورية "جماعة بوش" القضية منذ أمد بعيد تحت حدِّ سيف الشعار الشهير "من معنا ومن ضدنا..!!" هل ترانا لا زلنا نذكر ذلك ؟!

حسناً ...إذن ما الذي تغيَّر فجأة وسهّل ولادة المعيار والتعريف ؟ وما الذي شجَّع الأمين العام للأمم المتحدة على الذهاب باتجاه طرح تعريفه هذا وهو على هذه الثقة والأمل في رضاء الجميع عنه ؟ وما الذي اختصر المسافة بين مصلحة الإمبراطورية والتعريف الجديد ؟ وما الذي أفضى إلى شجاعة نوعية لدى الأمين العام وثقة في قدرته على إرضاء الجميع وتجاوز( اللاء) الحمراء المعتادة من الإمبراطورية؟ ثمَّ أيُّ جميع يقصد الأمين العام؟

هذه الأسئلة وحزمة أكبر منها قليلاً تستدعي بلا شك مثل هذا هذا الحذر، وتستوجب أيضاً هذا النظر حيث ما اعتدنا حتى الساعة من الأمم المتحدة إلا غضَّ البصر وكفَّ الأثر، فكيف أصبحت قضية بحجم هذا المعيار الذي احتارت حوله وفيه القوى وعقولها المختلفة فجأة سهلاً وميسّراً إلى هذه الدرجة !! كيف كان ذلك غائباً عن ذهن هذه العقول طيلة هذه المدة وعلى امتداد هذا الوقت ؟! ....اللهمَّ إلا إذا وافقت السيد الأمين العام ليلة لم نعدها من ليالي القدر بحيث دعا فأجيب لفكِّ معضلة العصر؟!!

ربما هناك ما يشفع للأمين العام السيد كوفي عنان باعتباره يقيم منذ مدة غرباُ وهذا الإرهاب في أصله وجملته كان بضاعة غربية دون لبس فعلاً فلذا وافق المآلُ المنال فارتفع الحجاب ووقع الجواب وانقضى طول الخطاب ......وفي هذه لو تعلمون حكاية أخرى .!
وإن كان السيد كوفي عنان سيرفض علنا مثل هذا التعليل لحدة بصره وبعيد بصيرته فلا بد أنه قد بحث طويلاً و كلّف نفسه عناء التفتيش لوضع يده على أصل هذه المعضلة حتى عثر على أقانيمها السحرية في أدراج بعض أدوات الإمبراطورية، وهو لم يشكل قطعاً فريقاً لهذا التفتيش الأممي كفرق تفتيشه في العراق المحتل تمهيداً لتسويغ حصاره طويلاً ....! وبالتالي ما أن وجد تعريفه حتى صاح صيحة أرخميدس الشهيرة "وجدتها" ...وجدتها ...!

لكن كما يبدو أن الأمين لم يفعل ذلك أيضا ولعل في الأمر سراً أدهى وأمرّ ، فهو ربما بحث في المصدر حتى تسهل صياغة المحضر وطباعة المختصر فاستسهل حائط المظلوم وقفز عنه شاباً كحيلاً نحيلاً حتى وهو في ثياب الكهولة المعتبرة، أما أميننا العام الموقر السيد عمرو موسى فلربما وجد ما وجده أمينهم المظفر فأبدى مطاوعة بعد ممانعة!

لعمري هما قد اختصرا الطريق إلى التصديق بأن اختصاراً مثل هذا سوف يقنع ويرضي وهو حاملٌ في بذوره الشيطان حيثُ الشيطان في التفاصيل كما يقولونها دوما ويحظرون علينا قولها دوما عملاً بالحرية السوداء! فهذه الحرية الموسومة "إمبراطورياً" هي فعلا الحرية السوداء ولا لون أنسب لوصفها إلا هذا اللون فقد أعملت فكري وأطلقت شعري فما وجدت أنسب منه لوناً ولا أكثر منه اتساقاً، واحذّر منذ الآن من استخدامه من قبلهم فهذه يا سيّدي واضحة إن تم غزوها وقنصها وإلباسها طاقية "الكاوبوي" تمهيداً لإعادة تصديرها إلينا فيحتار أهلونا في كيف يردون عليها ثم كيف يواجهون تطبيقاتها وندخل في حيص وبيص، فلذا إحذروا منذ الساعة !

ثمة سؤال مستعجل هنا: هل للسيد الأمين العام أن يحدِّد لنا من هم المدنيون أولاً ؟

ربما مثلاً هو يستطيع ونحن معه كذلك في تحديدهم حتى نسبة مماثلة لنسبة الفوز في الانتخابات العربية ويبقى ما قبل إقفال الصفر الأخير على العدد الصحيح حيث سنختلف حوله كثيراً !! فإن كان يحلم السيد الأمين العام للأمم المتحدة أن نوافقه على مدنية "مستوطني " فلسطين حاملي السلاح وأدوات القتل والدمار المدفوعة بعنصريتهم وصهيونيتهم الخالصة فهو لا شكَّ واهم كبير وحالم أكبر ومعه إن توقّع السيد أمين جامعة الدول العربية وعزيزنا السيد عمرو موسى أذكى وأقدر من أن ينتحر بهذا الظنِّ، ومرة أخرى لأمين العالم المتحد إن كان سيحاول أن يرى مدنية عشرات حراس الأمن ومستخدمي الشركات الأمنية والاستخباراتية في العراق المحتل مثلاً، فبما لا يدع مجالاً للشكِّ لن يجد ما يوافق امله وحلمه لدى كثير ممن توقّعهم راضين مستبشرين بفتحه الأعظم في تعريفه الأوهم ، ولنا أن نذكّر الأمين العام بأن ذات الشرائع الدولية لم تصنف حتى الحكومات التي تواطئت مع أي احتلال أجنبي كان وفي أي مكان وأي زمان كان على أنها حكومة مدنية ولا أعضاؤها وفرسانها النشامى على أنهم مدنيون ؟! فماذا يقول في ذلك الأمينان العامان حفظهما الله من كل شرٍ ومن كل غدر؟!

بانتظار أجوبتهما نكمل تالياً ما لدينا في هذه العجالة !!

الواقع أن رفضنا للإرهاب وإدانتنا له مسألة لا شكَّ فيها ولا خلاف عليها ، وأن إجماعنا على على رفضه بغض النظر عن أسبابه هي مسألة حاسمة، أما الأكثر حسما فهو رفضنا القاطع لتبريره أو محاولة تبريره وهي من المرّات النادرة التي نتفق فيها مع لفظ بعينه خرج من فم السادة الذين حذَروا من ذلك وأشهرهما السيدان بوش وبلير، ولكنَّ الآية لم تنته عند "لا تقربوا" ، فتتمتها هي تحديد ما هو هذا الإرهاب أولاً....!! لعل هذه التتمة هي الهدف المسكين فيما يحاول أن يمرره علينا وبرضانا المتوقع الآخرون كما صرّح الأمين العام وتوقع مروره الأمين الخاص؟!

لعلّنا نفيد السيدين الأمينين العامين قليلاً ونحيلهما إلى بحث تقدّمت به باحثة أندونيسية مسلمة هي السيدة ميمي جميلة محيا إلى الجامعة الإسلامية العالمية بكولالمبور في ماليزيا وهي كانت تتقدم به لنيل درجة الماجستير بقسم أصول الدين حيث البحث بعنوان " المصطلحات الوافدة على الفكر الإسلامي في العصر الحاضر دراسة تحليلية نقدية في نموذج الإرهاب" ، فلعلهما يستفيدان قليلا من هذه الدراسة النوعية ويستنيران أولاً حول المصطلح والمعيار وطريقة الوصول إليه ، وثانيا في الوقوف على رأي طرف من الذين يتوقع أن يكونوا راضين ومرتاحين تاليا عند التوافق على ذلك وفي حفل إعلانه على العالم إن قبلت الإمبراطورية بذلك مثلا!؟

نحن من جهتنا نفوض السيدة ميمي عنا أن تحاور الأمين العام وتناور مع الأمين العام الثاني في موضوعة الإرهاب من حيث أولاً مصدرها وثانياً مصطلحها وثالثاً نظرة إلى ضحاياها ومن عانى منها مطولاً قبل أن تعاد كما في كلِّ حكاية فتلصق بالضحية هذه التهمة، وهي على قاعدة "ضربني وبكي فسبقني واشتكى"، ولكن مع ذلك لا زلنا نقول أن الانفتاح في النظر والفكر والحوار هو أول وآخر وأسهل الطرق للوقوف على أنضج الثمار!

في هذا البحث المفيد والرائع يمكن لنا أن نفهم عظمة هذا الموروث الحضاري الإسلامي الذي كان وما زال ضحية لهذا الإرهاب مما يذكّر مرة أخرى بقول مثلنا "رمتني بدائها وانسلّت" ، وفي هذا البحث ما يزوِّد بالفرق بين الإرهاب والمقاومة، فالإرهاب هو كل عنف طال مدنياً أو غير مدني ، حجراً وبشراً وشجراً إن جاء في معرض حتى غصب الدعوة إلى باطل فضلاً عن التهديد أو الترويع بعنف فممارسته في سبيل هذا الظلم وهذا الباطل !!، بل وتصل حدود عظمة الفكر الإسلامي أن يشترط أن لا تمس كل هذه جميعا وكل مقومات الحياة التي كانت هي أصلا مقصد الشريعة في حفظ الجسد والعقل والمال والروح ، ولذا حرّم الإسلام تماماً على المسلم وخصوصا وهو يخرج مبشِّراً للإسلام أن يعترض أياً من هذه جميعاً ويضع ضوابط يحتاج الأمين العام لتأملها قليلاً.

من ناحية أخرى وباستثناء المحارب في حالة الدفع عن الحق وداره وأهله في أرض المواجهة فإن المسلم أيضاً حتى وهو يدفع ظلماً ويناضل في سبيل حق واضح فهو مأمور أن لا يتعرض لأي من هذه جميعاً ، فلم يرسل المسلمون يوماً كوماندوز خلف خطوط العدو لاغتيالات ولا لتفجيرات بل خرجوا من سمرقند لمجرَّد أن أهلها اعترضوا أنهم لم يعلموا بأمر الدعوة التي جاء بها هؤلاء الفاتحون ووجب إعلامهم قبل أن يستحقوا أن يقولوا أنهم قد فازوا بهذه المعركة، وخرج جيش المسلمين وأعلم قائد هؤلاء كما طلبوا تماماً دون مهارات التفاوض وفنون تزوير الأدلة وعرضها سينمائيا مثلاً ولم يحتج بعد ذلك هؤلاء الدعاة في دخولهم المدينة مرة أخرى إلا للصلاة حيث سمعوا نداء الصلاة فيها قبل دخولهم !

فمن هو الإرهابيُّ إذن ومن هم صنّاعه ؟!

حسناً وفق هذه القاعدة المنطقية العادلة فإن سجل الإمبراطورية ورفيقاتها سجل إرهاب أسود في بحثها عن مصالحها بطريق الظلم والجبروت وهو أطول من أن يحصى ويعد ولا زال قائماً أمام ناظري السيدين الأمينين العامين والعالم أجمع من خلفهما، وبالصحيح أيضاً أن كلَّ ما أصاب غير محارب على يد أهل وأصحاب الظلامة الذين يدافعون عن ظلامتهم هو إرهاب فعلاً إن كان خارج أرض المواجهة، وأما إن كان على أرضها فهو على الأغلب بحسب قاعدة "ضحايا حرب" كما يقولون هم ولا حيلة فيها ولا سيما إن كانت بغير قصد....!! ، فإن كانت بقصد فهي تحت شبهة الإرهاب قطعا والشبهة مضرة ومن استبرأ منها فقد استبرأ لدينه وعرضه!

هل في هذا الدرس المعياري ما يستوجب على الأقل من الأمين العام للأمم المتحدة أن يتروى قليلا ويراجع ظنه ؟ وهل فيه ما يحمّس السيد الأمين العام العربي على الاستعانة بالدراسات والخبرات وأهل الاختصاص في القانون والفكر والحكمة قبل أن يندفع إلى ظنه ؟ لست متأكداً من ذلك وإن كنت آمل وأرجو أن يفعلا.

ربما سوف لن يصدم الأمينان العامان بأن هذا الإرهاب الذي تحمسا لتعريفه على هذه الطريقة وانتهى ، هو مثله مثل كثير من التقنية السريعة وأشهرها تقنية الغذاء السريع قد تم سلخه وطبخه على ذات الطريقة هو بضاعة غربية سترد لهذا الغرب الوديع حيث لن يقبلها الزبون المسكين هذه المرة، فالأمر هنا لا يستهدف بطوننا ولا يستنزف جيوبنا ولا يسترقُّ أبصارنا وأسماعنا، بل هو في صميم عقولنا ووجداننا أيها السادة ولذا فإننا نأسف أن لا نرضيكما وأن نخيِّبَ ظنكما هذه المرة فلا نقبل فطيرة "الإرهاب" على هذا النحو "التيك أوي" ونطالب بضرورة المعيار الأخلاقي والإنساني والعادل لنقف على الإرهاب فندينه جميعا، ونقف على المقاومة فنحيها وندعمها، أوليس هذا هو العدل أيها الأمينان ؟!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية