لو كنت من أبناء جيلي، لا بد أنك وقفت مندهشاً مثلي أمام شاشات التلفاز، وأنت تشاهد (جون جارنج) يرقص مع (عمر البشير) رقصة السلام في الخرطوم. فعلي مدى عقود من الزمن، وحكومات كثار تعاقبت علي حكم السودان، كان هناك دائماً (جارنج)، ودائماً حرب أهلية، تزهق فيها أرواح المدنيين والعسكريين من أبناء الوطن الواحد، وتطال أثارها الشريرة كل مناحي الحياة في البلد الشقيق . ولقد ظلَّ السودان يمثل في وعيي منذ صباي الامتداد الطبيعي لمصر في وادي النيل رغم انفصاله عنها بعد ثورة يوليه ، وظل يمثل لنا ـ بنوع من الآمال المحبطة ـ باتساعه وتنوع مناخه وأراضيه الخصبة سلة غذاء للوطن معطلة وغير مستغلة . وقيل لنا منذ سنوات بعيدة أن مشروع قناة ( جونجلي ) التي يمكنها أن ترفد نهر النيل بآلاف الأمتار من المياه الضائعة في الأحراش والمستنقعات ، وبالتالي يستفيد منها المصريون والسودانيون معطل الشروع في إنجازها بسبب هذه الحرب طويلة الأجل ، والتي عطلت معها عشرات المشروعات الزراعية التي يمكن أن تفيد شعب وادي النيل

في الجامعة كان لي أصدقاء من شمال السودان وجنوبه يدرسون معي في نفس الكلية ، أتذكر الآن بخجل أنني كثيراً ما وقفت أنظر ـ بنوع من قلة الأدب ـ لفتيات جنوبيات زميلات وهن يمضين بين مماشي الكلية ، كنت مبهوراً بقاماتهن الفارعة جداً ، والشديدة السمرة جداً جداً ، وأخالهن كفتيات بريات تم ترويضهن قسراً في هذه الملابس الحديثة وبين هذه البنايات الجامعية الضيقة ، وأن مكانهن الطبيعي هناك في الجنوب حيث الطبيعة البكر والحرية والانطلاق .

لكنني فيما بعد كنت أرى بعض الجنوبيين الفقراء في مصر يقرفصون أمام كومات صغيرة من البضائع يتاجرون فيها .. ساعات مستوردة أو زجاجات عطر أو أعشاب ومراهم أوغيرها .

والدهشة التي شملتني مع رقصة السلام الشهيرة ( جارانج ـ البشير ) ، ظلت معي وأنا أطالع علي أحد مواقع النت قصة جميلة بعنوان ( بحيرة بحجم ثمرة الباباي ) .. القصة لكاتبة شابة من جنوب السودان اسمها ( أستيلا قايتانو ) .. وهذه كل معلوماتي عنها رغم محاولات البحث التي أجريتها علي الشبكة لمعرفة المزيد

القصة تبدأ بهذه العبارة :

( كل شيءٍ فيها كان يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع .. طولها الفارع ، ووقفتها المستقيمة رغم شيخوختها

لا ألمس في جدتي أي جماليات ، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا ، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض . عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس ، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أي جهد في التفكير :
- يكفي أنني أتنفس به ..)

إنها تتحدث عن جدتها التي تعيش معها وترضعها بعدما ماتت أمها وهي تلدها ، والأب الذي دهمته جاموسة أثناء رحلة صيد ومات ، والجد الذي قتل جندي إنجليزي لم ترق له نظراته برمح وحكمت عليه المحكمة بالإعدام وهو لا يدري ، وأعطوه ورقة كان عليه أن يحملها إلي مكان آخر لتنفيذ الحكم ، كان الغبي سعيداً وقد وضع الورقة بين شقي عود بوص ، كأنه كان يحمل راية موته ، وعندما وصل أعدمه الإنجليز بطلقة رصاص .

وتقول أستيلا عنها :

( كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري )

وعالم الجدة عالم أسطوري غريب ، ترعى الأبقار وتؤمن بتناسخ الأرواح ، فهي ترى الجد في تمساح أعرج ، وتشرب خمرا بلدياً مع جاراتها وتغني وترقص معهم ، وتكلم الموتى .. الأم ربيكا التي قتلها خوفها من الولادة .. الأب الذي قتلته جسارته .. الجد الذي قتله غباءه . وعندما ترى أفعى منتصبة وحولها فراشات ملونة ترى فيها نذير شؤم نهايتها .. الناس لا تموت لديها ، لكنهم يتحولون إلي كائنات أخرى ، وهي تريد أن تتحول لنسر ! .

وإذا كان ثديا الجدة يمثلا بحيرة صغيرة بحجم ثمرة باباي لأستيلا ، فإن ثمار الباباي .. أو الباباظ كما نسميه هنا ـ بعد انتشار زراعته مؤخراً في مصرـ تمثل بحيرة مفيدة جداً للكافة عامة وللكتَّاب خاصة ، وأنا أحد المغرمين بها عن تجربة .

فمن الناحية الطبية عصيره حلو الطعم مفيد في علاج كثير من الأمراض كارتفاع الضغط والنقرس والقلق وغيرها ، كما إنه قادر علي اكتساب طعم الفواكه الأخرى بإضافة قليل من عصائرها إليه مع اللبن .. برتقال أو ليمون أو مانجو أو جوافة أو غيرها .

ومع أنخاب من عصير الباباي ، دعونا نشارك الإخوة السودانيين فرحتهم ، ولنرقص معهم رقصة السلام الشهيرة ، ولندع القلق جانبا ، ولننتظر من الجنوب قصص أخرى جميلة كقصة أستيلا ( بحيرة بحجم ثمرة الباباي )

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية