من زمان بدا " التحقيق " الذي باشره المحقق الدولي ديتليف ميليس في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري أقرب إلى "الاستطلاع" منه إلى التحقيق. الآن يمكنني القول، دونما تحفظ، أنه بات مشهدية مسلية. هل يتحمل ميليس مسؤولية في ما انتهى إليه الأمر؟ إن أحداً لا يستطيع، في هذه المرحلة من "التحقيق"، أن يتشكك في نياته أو أن يمنحه صك براءة. الأرجح أن مصدر الخلل قلة خبرة الرجل بتعقيدات بيئة الجريمة وخبث اللاعبين جميعا: محليين وإقليميين ودوليين.

غير أن خطأ مهنيا وقع فيه ميليس منذ البداية أدى إلى تحويل التحقيق، أو بالأحرى الاستطلاع الذي يقوم به، إلى مشهدية مسلية. انه التهاون في احترام سرّية التحقيق. فالتحقيق في معظم الأنظمة القضائية المعاصرة سري. وهو على كل حال سري جداً وفق القانون اللبناني.

كان يفترض بميليس ان يعي جيدا أن البند 6 من قرار مجلس الأمن 1595 معطوفة على البندين الأول والرابع من "بروتوكل التعاون" بين لجنة التحقيق الدولية ووزارة العدل اللبنانية أوجبت على اللجنة أن تقوم بمهمتها في نطاق سيادة لبنان ونظامه القانوني. في إختصار، كان على ميليس أن يحرص على سرّية التحقيق بحسب أحكام القانون اللبناني. فهل فعل؟

كلا. فقد عقد المحقق الدولي مؤتمرات صحافية وأدلى بأحاديث لجرائد ومجـلات، في لبنان والخارج، كشف فيها جوانب من التحقيق قبل اكتماله. غير أن أبرز أخطائه، في هذا المجال، قيامه بتقديم تقرير منقوص إلى مجلس الأمن في 2005/10/19 قبل إيداعه – حسبما تقضي أحكام "بروتوكول التعاون" - النيابة العامة لدى محكمة التمييز اللبنانية. هذه المخالفة تعرّض التقرير برمته للإبطال، والمخالف للحبس. إذا كان لبنانيا.

فوق ذلك، أوقع ميليس نفسه في إشكالية مريبة عندما سرّب إلى وسائل الإعلام في الأمم المتحدة نسخة عن التقرير لا تتضمن أسماء بعض المشتبه فيهم من كبار الضباط السوريين. ثم ما لبث أن اعترف بحذف هذه الأسماء لدواعي الاستفادة من قرينة البراءة!

هذه التصرفات هتكت صيت ميليس الملقب بِــ "المحقق الثعلب". فالرجل بدا بريئا تماما من "الثعلبة " التي " اتهم" بها.

أياً ما يكن الأمر، فقد انزلق "التحقيق" إلى مشهدية قبل ذلك بمدة غير وجيزة. ذلك أن "الشاهد الملك" الأول المدعو محمد زهير الصدّيق كان قد "تطور" في تلك المرحلة من شاهد ثمين إلى مشتبه فيه مريب وقيد التوقيف. فهل يجوز أن يبقى، رغم ذلك وكما بدا في تقرير ميليس، مصدر معلومات ووقائع يمكن أن تدين الضباط اللبنانيين الأربعة الموقوفين ؟!

ثم تأتي الضربة الثانية المحكمة. "الشاهد الملك" الثاني، هسام طاهر هسام، يكشف للعالم أسرارًا وأخبارًا مدوّية في مؤتمر صحافي عقده في دمشق عشية بدء التحقيق مع المسؤولين السوريين الخمسة في فيينا.



ماذا قال هسام ؟

كشف ،بإسهاب، انه ضابط استخبارات سوري عمل في لبنان أكثر من 13 عاما، وانه قدّم تحت الضغط والإغراءات المالية، شهادة مزورة تدين المشتبه فيهم، اللبنانيين والسوريين.

ميليس لم ينفِ، في بيان لجنته، تأكيدات هسام بأنه "الشاهد المقنّع" الذي أشار تقرير لجنة التحقيق إلى استماعه. اكتفى فقط بالقول أن هسام جاء إلى اللجنة بملء إرادته وأنها لم تدفع له أية مكافأة لقاء المعلومات التي أدلى بها.

الواقع ان هسام لم يتهم ميليس او أعضاء لجنته برشوته. هذا الاتهام المؤذي وجهه الشاهد الذي خلع القناع إلى جهاز سعد الدين الحريري، بل إليه شخصيا والى كبير إعلامييه الناشط في تلفزيون "المستقبل" وصحيفته اليومية. من مجمل هذه "الكشوفات " الدرامية تتضح الحقائق الآتية:

- أن هسام طاهر هسام هو مجرد عميل مدسوس للاستخبارات السورية، جـرى "تشغيله" في لجنة التحقيق الدولية على نحوٍ أساء كثيرا إلى صدقيتها، وكاد ينهي فعاليتها عشية المرحلة الأخيرة من تحقيقاتها في فيينا.

- أن جهاز الحريري الابن ناشط ليل نهار في "دعم" لجنة التحقيق بشهود أبرياء وآخرين مغسولي الدماغ، وان غايته أولا وآخرا تلبيس النظام السوري جريمة اغتيال الرئيس المغدور لإغراض سياسية، محلية وإقليمية.

- تحوّل " التحقيق " في الجريمة النكراء ، بفضل "ثعلبة" ميليس أو بسبب قلـة "ثعلبته"، مشهديةً مسلية لا تنطوي، بطبيعة الحال، على أية صدقية أو فعـالية.

- أن الولايات المتحدة وفرنسا لم تظهرا أي استياء حيال مؤتمر هسام الصحافي الفضائحي، بل اكتفيتا بأخذ العلم وترك الموضوع للمحقق ميليس.

- أن موقف واشنطن وباريس "الودي" تجاه دمشق، قابلته هذه الأخيرة بموقف مفاجئ وحاسم من مسألة مزارع شبعا التي أصبحت في مؤتمر برشلونـة، على لسان وزير خارجيتها فاروق الشرع، مزارع لبنانية خالصة بحق وحقيق.


ما مؤدى هذا كله ؟

من الواضح أن محور اهتمام إدارة بوش بات هندسة مخرج لائق لقواتها من العراق قبل شهر حـزيران/ يونيو المقبل. هذا المطلب يتطلب مساعدة محسوسة من سوريا وإيران. يبدو أن سوريا وافقت على تقديم "العون" للولايات المتحدة من دون الإساءة إلى ثوابتها الوطنية أو إلى نظامها السياسي. العون المطلوب يتلخص في تسهيل أمر التحقيق مع اثنين من الضباط السوريين المشبوهين الكبار وثلاثة أو أكثر من المشبوهين الصغار في فيينا مع كفالة عودتهم إلى ديارهم سالمين، والإقرار بلبنانية مزارع شبعا أملا في أن يساعد ذلك في تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559 . كيف؟ بالإيحاء أن انسحاب إسرائيل لاحقا من هذه الأرض اللبنانية المحتلة، يُسقط حجة "حزب الله" بضرورة التمسك بسلاحه.

صحيح أن لدى "حزب الله" ثلاث حجج أخرى، وربما أكثر، للتمسك بسلاحه وبالاستمرار في المقاومـة. لكن الإقرار بلبنانية مزارع شبعا يساعد، نظريا على الأقل، حكومة فؤاد السنيورة على البقاء عائمة وعلى تلطيف عداء القوى المعادية لسوريا وفي مقدمها سعد الدين الحريري نفسه. كما يساعد واشنطن على إغراء طهران بأن تلعب دورا ايجابيا في العراق على نحو يسمح لإدارة بوش بسحب ثلثي قواتها قبل نهاية العام القادم، والإبقاء على الثلث الأخير في قواعد بعيدة عن المدن وعن نار المقاومة العراقية المستقلة أساسا عن إيران.

... وتبقى مشهدية ميليس ناشطة ومسلية!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية