لعل الغاية الرئيسة من وراء خوض "حماس" الانتخابات التشريعية هي تجديد إرادة المقاومة وتزخيمها وتصليبها. الغاية المتوخاة تحققت وأفرزت مفاعيل إيجابية فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا. من هنا تطالب "حماس" نفسها كما يطالبها جمهورها وأنصارها ومؤيدوها بأن تبقى، كما هي في واقعها ومرتجاها، رأس رمح وقدوة صالحة لمقاومةٍ واعيةٍ ومتواصلة. غير أن "حماس"، إلى كونها مقاومة، هي أيضا غالبية برلمانية مرشحة لأن تؤلّف حكومة . هذا الإعتبار مفيد ومزعج في آن. فهو مفيد لأنه يمكّن " حماس" من تنفيذ برنامجها الإصلاحي، لكنه مزعج لأنه يحدّ من تنفيذ أهدافها الوطنية العليا بسبب مواقف سلبية نابعة من الداخل ( موقف حركة " فتح") ومن الخارج ( عداء إسرائيل وسلبية الولايات المتحدة وسائر اطراف اللجنة الرباعية). ماذا يقتضي أن تفعـــل " حماس" إذاً للتوفيق بين المتطلبات التي تفرضها أهدافها العليا وبرنامجها الوطني والإصلاحي من جهة والتحديات النابعة من أطراف ومواقف فاعلة في الداخل والخارج من جهة أخرى ؟

لا سبيل ولا جدوى ولا مصلحة في أن تتخلى " حماس" عن مسوّغ وجودها وعن هويتها ووظيفتها وهي المقاومة . " حماس" يجب أن تبقى حركة مقاومة وان تحاذر التحوّل حكومةً وسلطةً في ظروف تبدو غير ملائمة لئلا تفقد مسوّغ الوجود والهوية والوظيفة . لذا يقتضي أن تتولى " حماس" دور المرشد الأعلى والموجِّه الحكيم لحكومة جديدة غير برلمانية ، وأن تلعب هذا الدور بكفاءة وفعالية . إن من شأن الإكتفاء بدور المرشد والموجِّه وإعتماد الإنفتاح والمرونة تمكين " حماس " من التعاون مــع " فتح" وسائر القوى السياسية الممثلة في المجلس التشريعي لتنفيذ برنامجها الإصلاحي في الداخل. كذلك فإن عدم تولي " حماس" رئاسة الحكومة الجديدة وعدم المشاركة الظاهرة في عضويتها يعفيانها من " موجبات " التخلي عن سلاحها ، والإعتراف بإسرائيل ، وإعتماد إتفاقات اوسلو، وإلتـزام " خريطة الطريق". وغني عن البيان ان ما تعتزم الحكومة العتيدة غير البرلمانية تحقيقه من إصلاحات في الداخل وإتفاقات مع الخارج سيجري التفاهم عليه بين الأطراف والشخصيات المشاركة فيها، وتضمينه تاليا البيان الوزاري لنيل ثقة المجلس التشريعي على أساسه.

إن تركيبة الحكومة الجديدة غير البرلمانية وبرنامجها التوافقي هما أساس النهج المقترح إعتماده في هذه المرحلة . يجب أن تحرص قيادة " حماس" على صيغة الشراكة السياسية مع القوى الفاعلة في البلاد وفي المجلس التشريعي ، وطليعتهـــا " فتح" . كما يقتضي أن تغلّب " فتح" وسائر القوى الفاعلة في البرلمان مطلب الوحدة الوطنية في المبدأ والممارسة خلال هذه المرحلة العصيبة على أي مصلحة ذاتية . ذلك أن صيغة الشراكة السياسية المبنية على قاعدة الوحدة الوطنية تمكّن " حماس" كما " فتح" من أن تلعبا في آن دور الحكومة والمعارضة . فـ " حماس" سيكون في وسعها من خلال المشاركة غير المباشرة في الحكومة وإختيار أعضائها وصياغة برنامجها أن تحقق الكثير من بنود برنامجها الإصلاحي ، كما تستطيع من خلال رقابتها على الحكومة في المجلس التشريعي أن تمارس دور المعارضة في المحاسبة والتصحيح والتصويب . كذلك تستطيع " فتح" من خلال وجودها الكثيف في إدارات السلطة ومؤسساتها وأجهزتها الإشتراك في العمل الحكومي الإجرائي ، كما تستطيع من خلال كتلتها البرلمانية مراقبة الحكومة ومحاسبتها وتصويب أدائها .

إذا أخفقت " فتح " وسائر القوى السياسية الممثلة في المجلس التشريعي في إستجابة مطلب " حماس " المشاركة في حكومة وطنية جامعة غير برلمانية ، فإن بإمكان " حماس" تأليف مثل هذه الحكومة من شخصيات مستقلة تجمع بين العلم والاختصاص والكفاءة والخبرة والنزاهة، وان تتبنى برنامجا إصلاحيا وسيـاسيا يكون وليد مناقشات مؤتمر وطني يدعو إليه الرئيس محمود عباس ، وإذا تمنّع عباس تدعو إليه " حماس " دونما تردد ، وتتبنى مع غيرها من القوى والشخصيات المشاركة فيه توصياته كبرنامج للحكومة الجديدة الناهضة إلى تنفيذه
.
سواء شاركت حركة " فتح" في الحكومة الوطنية الإئتلافية الجامعة بوزراء أصدقاء غير حركيين أو آثرت التخلف عن الوفاء بهذه المهمة التاريخية في هذه المرحلـة ، فإن الأمر في كلا الحالين يستوجب تعاونا وثيقا مخلصا وهادفا بيـــن " حماس" وعباس . فالرئيس الفلسطيني مسؤول منتخب من الشعب، وولايته تمتد لثلاث سنوات قادمة، وهو في الوقت نفسه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني ، لاسيما في شتاته الواسع على مدى العالم كله ، وهو قائد ذو مكانة في تاريخ النضال الفلسطيني ، وهو شخصية معروفة وذات صدقية في المحافل الدولية. كل ذلك زائد خطورة التحديات والمرحلة العصيبة الراهنة تفرض على الطرفين ، بل على جميع الأطراف الوطنية ، الإرتفاع إلى مستوى هذه التحديات والأخطار والحرص على التعاون بجدية وإخلاص لمواجهتها بفعالية إستثنائية.

هذا على الصعيد السياسي . أما على الصعيد الدستوري فتجدر الإشارة إلى أن القانون الأساسي الفلسطيني هو الذي يقوم مقام الدستور في تحديد طبيعة العلاقة وحدودها بين رئيس السلطة الوطنيـة الفلسطينية (محمود عباس) ورئيس الوزراء والحكومة . فالشؤون الداخلية ، وفق القانون الأساسي ، محصورةٌ صلاحياتها برئيس الحكومة والحكومة ، بينما الصلاحية في الشؤون الخارجية تبقى للرئيس. ولا سبيل، في ظل التركيبة الراهنة للمجلس التشريعي ، الى تعديـل القانون الأساسي لأن تعديله يتطلّب موافقة ثلثي أعضائه ، أي 88 نائباً من اصل 132 ، في حين أن غالبيـــة " حماس" لا تتعدى الـ 74 نائبا .

فوق ذلك، تنص المادة 40 من القانون الأساسي على أن الرئيس يعيّن ممثلي السلطة الوطنية لدى الدول والمنظمات الدولية والهيئات الأجنبية وينهي أعمالهم ، الأمر الذي يحول دون تمكين الحكومة من إجراء أية تعديلات في هذا المجال من دون موافقة الرئيس. ثم ان الرئيس هو " القائد الأعلى للقوات المسلحة " ، وهذه السلطة تشمل جميع أجهزة الأمن الفلسطينية . وقد أعطى القانون الأساسي الرئيس صلاحية الإشراف المباشر على جهاز الإستخبارات والأمن الوطني وقوات الـ 17 والحرس الشخصي وسلاح البحرية ، بينما أعطى رئيس الوزراء صلاحية الإشراف على أجهزة الشرطة والأمن الوقائي والدفاع المدني. كذلـك فإن صلاحية حفظ النظام والأمن الداخلي تبقى ، بموجب القانون الأساسي ، مسؤولية رئيس الوزراء
.
للرئيس الحق في إختيار رئيس الوزراء وتكليفه تشكيل الحكومة ، وله سلطة إقالته أو قبول استقالته . مع العلم أن رئيس الوزراء مسؤول أمام الرئيس عن أعماله وأعمال حكومته ، بينما يبقى رئيس الوزراء والوزراء مسؤولين مسؤولية فردية وتضامنية أمام المجلس التشريعي . غير ان صلاحية الإشراف على أعمال الوزراء والوزارات والمؤسسات العامة التابعة للحكومة تبقى لرئيس الوزراء.

هكذا يتبين أن ثمة تداخلا بين صلاحيات الرئيس وصلاحيات رئيس الوزراء ، لاسيما ما يتعلق منها بالأجهزة الأمنية وحفظ النظام العام والأمن الداخلي. من هنا تنبع أهمية التوافق بين قيادة " حماس" و محمود عباس بالنظر إلى دوره المفتاحي على الصعيدين الدستوري والسياسي . فالرئيس عباس يبدو في وضع يمكّنه من أن يكون اللاعب الأول على صعيد الخارج في كل ما له صلة بإسرائيل والولايات المتحدة وأطراف اللجنة الرباعية والاتفاقات والسياسات والترتيبات السابقة للإنتخابات التشريعية الأخيرة. لكن عباس لا يستطيع إن ينفرد بتقرير الأمور السالفة الذكر أو ممارستها بمعزل عن رضى " حماس" وموافقتها الصريحة أو الضمنية . كما لا يستطيع عباس أن يتجاهل دوره الوطني كرئيس لمنظمة التحرير ، المسؤولة بصورة عامة عن العمل الوطني الفلسطيني ومتطلباته على جميع المستويات وفي كل الأمكنة والمناطق والقارات.

لعل المعادلة الأنسب في تحديد العلاقة بين " حركة حماس" والرئيس عباس هي في أن تكون الحركة مسؤولةً عن شؤون الأمن والإصلاح الأمني والإداري والاقتصادي والاجتماعي في الداخل ، وان يكون الرئيس مسؤولاً عن العلاقات والمفاوضات مع الدول والهيئات والقوى السياسية في الخارج . مع التأكيد على أن كلا الطرفين محكوم بمراعاة القوى الأخرى الممثلة في المجلس التشريعي أو الشخصيات المشاركة في الحكومة وبالتعاون الوثيق معها في حدود البيان الوزاري للحكومة المبني على التوصيات التي يكون المؤتمر الوطني الذي سبقت الإشارة إليه قد توصل إليها .

ولعل بمقدور " حماس" ، كحركة مقاومة ، تطويق دعوتها من طرف أميركا وأوروبا للتخلي عن سلاحها والإعتراف بإسرائيل ومفاوضتها ، بأن تعلن إعترافها بوجود دولة إسرائيل كأمر واقع يمكن التعامل معه في إطار ميثاق الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي المتعلقة بالسلم والحرب من جهة ، ومن جهةٍ أخرى بأن تعلن رفضها لما نجم عن وجود إسرائيل كأمر واقع من أعمال ونتائج مخالفة لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها جميعا ولأحكام القانون الدولي ، لاسيما ما يتعلق منها بالإحتلال والإستيطان وإقتلاع السكان من ديارهم وبيوتهم وتشريدهم ومنع عودتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وتدميرها والتنكيل بالشعب الفلسطيني وحرمانه حقوقه الإنسانية والمدنية
.
ربما بهذه المقاربة للأحداث والتحديات السابقة واللاحقة للإنتخابات المفصلية التي جرت في 25 كانون الثاني / يناير 2006 تستطيع السلطة الوطنية أن تستمر في العمل و" حماس" أن تستمر في المقاومة في إطار من التوافق على أهداف العمل الوطني الفلسطيني ونهجه في هذه المرحلة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية