وقد طرح تصوره لقضية الهيمنة في كتابه " مأساة سياسات القوى الكبرى " ( 2 ) وهو منصب على التأريخ لسياسات الهيمنة التي تتبعها الدول الكبرى مع إخضاعها للتحليل . وفي ظل المناخ الذي تفرضه سياسات الهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية ، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من استخدام الولايات المتحدة الأمريكية القوة العسكرية في أفغانستان ثم في العراق ، يكون من المهم أن نتوقف أمام محتوى هذا العمل التأريخي التحليلي المهم .
والصورة التي يعكسها الكتاب لكاتبه هي صورة ميكيافيللي أكاديمي واقعي حتى النخاع ، والفكرة الأساسية فيه أن سياسات القوى الكبرى دائما تهدف للهيمنة لا للتوازن ، وهي بالتالي ذات طبيعة هجومية ، وباستعراض أحداث القرن العشرين تتعزز نظرية ميرشايمر ، فلقد شهد حربين عالميين ضاريتين تلتهما حروب محدودة النطاق وأخرى " بالوكالة " سقط فيها ملايين القتلى ، وستستمر دورة العنف على ما يبدو في الفرن الحادي والعشرين . وآمال السلام في القرن الجديد لن تتحقق لأن الدول الكبرى التي تشكل النظام الدولي تخشى كل منهما من الأخرى ، وبالتالي تنافسها على القوة مستهدفة تحقيق الهيمنة كأفضل وسيلة لضمان البقاء . ويترتب على هذا وضع مأساوي لا مهرب منه ما لم تتفق الدول التي تملك تأثيرا كبيرا على الساحة الدولية على تأسيس : " حكومة عالمية " ، وما دام هذا التحول غير محتمل حتى الآن فإن الصراع والحرب سيظلان أهم معالم السياسة الدولية .
وتمدنا الخبرة التاريخية بما يدفعنا لأن نحذر من التفاؤل بانتهاء الحرب الباردة ، فلقد بدأ القرن التاسع عشر في ظل الثورة الفرنسية والحروب النابوليونية التي دامت ثلاثة وعشرين عاما وتورطت فيها كل القوى الكبرى التي كانت موجودة آنذاك . ورغم تلك البداية الدامية لم يكن القرن التاسع عشر قرنا مليئا بالصراعات بين القوى الكبرى بل كان من الفترات التي شهدت أقل عدد من الصراعات أوروبيا قياسا بغيره . وينطوي هذا الاستنتاج على تحيز ينبغي التوقف عنده ، فالمؤلف يعتبر صراعات الهيمنة هي الصراعات بين القوى الكبرى وحسب ، مغفلا عن عمد النشاط الواسع لحركة الاستعمار الغربي في عالم الجنوب / الشرق حيث نقلت " القوى الكبرى " صراعاتها على أرض الشعوب الأضعف ، كما استنزفت حركة الاستعمار القسم الأكبر من طاقاتها العسكرية ، بل في أحيان كثيرة كانت هذه القوى تخوض صراعات دموية بالوكالة هدفها الهيمنة ، فترث دولة مستعمرات دولة أخرى أو تقتسمها معها وهكذا .
وعندما ينتقل للقرن العشرين يقول إنه بدا خلال سنواته الأولى هادئا ثم أصبح أشد قرون التاريخ الغربي اشتعالا ، ورغم زوال الاتحاد السوفيتي لم تزل الولايات المتحدة تحتفظ بمائة ألف جندي في أوروبا ومثلهم في شمال شرق آسيا لإدراكها احتمال ظهور منافسين خطرين من القوى الإقليمية في المنطقتين إذا أنهت وجودها العسكري فيها ، والدول الأوروبية كافة - وضمن ذلك بريطانيا وفرنسا - لم تزل تخشى تحول ألمانيا إلى قوة عسكرية كبرى إذا لم تستمر السياسة الأمريكية في تحجيمها .
وقبل استخدام نظرية مير شايمر " الواقعية الهجومية " كأداة للتحليل نتوقف أمام الحالات التي تعجز عن تفسيرها ، فبريطانيا التي كانت أغنى دول العالم بلا منازع في منتصف القرن التاسع عشر لم تبن قوة عسكرية تمكنها من الهيمنة على أوروبا ، وألمانيا البسماركية ( 1862 - 1890 ) تبنت سياسة عدوانية وخاضت ثلاثة حروب بين عامي 1862 و 1870 ثم أحجمت عن شن حروب بين عامي 1871 و 1890 . وفي عام 1905 كانت خريطة القوى الأوروبية كالتالي : كانت ألمانيا القوة الأعظم ، وكانت قوة بريطانيا أقل منها بشكل ملموس إذ كانت تعتمد على قوة فرنسا وروسيا في إقامة توازن مع القوة الألمانية ، وفي عام 1904 ألحقت ألمانيا هزيمة منكرة بروسيا فكانت الفرصة سانحة أمام ألمانيا للانفراد بفرنسا وتحطيمها وأحجمت عن ذلك . وأنشأت بريطانيا - مع فرنسا وروسيا تحالفا لموازنة قوة ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وفشلت في بناء تحالف فعال لاحتواء ألمانيا النازية . ورغم اشتراك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى قرب نهايتها فإنها لم تسع خلال ثلاثينات القرن نفسه لبناء تحالف مضاد لألمانيا النازية .
ورغم الصياغات المصقولة التي يستخدمها المؤلف فإنه يرسم - بلا رتوش - عالما داروينيا لا يعرف سوى لغة القوة ولاهوت البقاء ، فالهدف الأسمى لأي دولة حسب نظريته تنمية نصيبها من القوة العالمية على حساب الدول الأخرى ، أما الدول الكبرى فتتجاوز ذلك ساعية إلى أن تكون القوة الأولى بل القوة المهيمنة ، أي القوة الكبرى الوحيدة في النظام الدولي . وبطبيعة الحال لا تسعى أية دولة إلى تثبيت توازنات القوى ما لم تكن في وضع القوة المهيمنة ، ولا تشبع الدولة إلا إذا حققت الهدف النهائي وهو الهيمنة . ولما كان من المستحيل تحقيق ذلك فإن العالم يظل محكوما بقاعدة " الصراع الأبدي " .
وتمدنا الخبرة التاريخية للسياسة الدولية بما يؤيد ذلك عبر التاريخ وذلك بالتركيز على سجل علاقات الدول الكبرى منذ الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن العشرين . وبالنظر إلى القوى الكبرى الأوروبية نجد أنه قبل أن تصبح الولايات المتحدة واليابان قوى دولية كبرى في نهاية القرن التاسع عشر فرضت هذه القوى الأوروبية هيمنتها على السياسة الدولية ، وينبغي ألا نغفل أيضا خبرة علاقات القوى الكبرى في شمال شرق أسيا وبالأخص السلوك الياباني خلال نصف القرن الممتد من عام 1895 حتى 1945 ، والسلوك الصيني في أواخر القرن العشرين ، والسلوك الأمريكي في القرن العشرين .
وقد شهدت الفترة موضوع الرصد والتحليل حروبا ثلاثة هي الأطول والأكثر دموية في التاريخ الحديث : حروب الثورة الفرنسية وحروب نابليون ( 1792 - 1815 ) ، والحرب العالمية الأولى ( 1914 - 1918 ) ، والحرب العالمية الثانية ( 1939 - 1945 ) وقد تورطت فيها القوى العظمى كافة . كما تتناول فترت السلام التي شهدتها أوروبا ( 1816 - 1852 ) و ( 1871 - 1913 ) و ( 1945 - 1990 ) إبان الحرب الباردة .
ويطرح التأريخ للهيمنة في الغرب عدة تساؤلات منها : إحجام بريطانيا التي كانت أغنى دول العالم بلا منازع في منتصف القرن التاسع عشر عن بناء قوة عسكرية لتهيمن على أوروبا وهو ما حول إنجازه نابليون في فرنسا وويلهلم في ألمانيا والاتحاد السوفيتي . وآخر عن تبني ألمانيا البسماركية سياسة عدوانية بين عامي 1862 و 1870 ثم عزوفها عنها حتى عام 1890 . وتساؤل ثالث عن إنشاء بريطانيا تحالفا لموازنة قوة ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى وفشلها في تشكيل تحالف فعال لاحتواء ألماني النازية . ورابع عن التزام الولايات المتحدة الأمريكية بنشر قوات أمريكية في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين رغم أنها انتظرت حتى إبريل 1917 قبل أن تدخل الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في أغسطس 1914 ، ولماذا لم تسع لمنع الحرب العالمية الثانية قبل نشوبها بإقامة تحالف ضد النازي ؟ .
وبعيدا عن الديباجات الأكاديمية التي يستخدمها ميرشايمر ببراعة فإن نظريته " الواقعية الهجومية " واقعية لدرجة مخيفة !! فهي ذات أنياب ومخالب لا يكاد ينقطع من حروفها نزيف الدم ، وتتأسس على أن التنافس بين القوى الكبرى من أجل الهيمنة يقوم على فرضيات أهمها أن النظام الدولي - في غياب حكومة عالمية - هو نظام فوضوي ، وأن من المستحيل أن تتيقن دولة من نوايا الدول الأخرى ، وأن البقاء هو الهدف الأسمى للقوى الكبرى وهو الذي يهيمن على الدوافع الأخرى كافة ، وهو ما يعني أسبقية الأمن . ويسفر التفاعل بين هذه العوامل مجتمعة عن ثلاثة أنماط للسلوك هي : الخوف والاعتماد على النفس وتعظيم القوة .
والقوى الكبرى تخاف من بعضها وتنظر كل منها للأخرى بعين الشك ولا مجال يذكر للثقة المتبادلة ، صحيح أن هذا الخوف يتفاوت بحسب الزمان والمكان ولكنه لا يختفي فكل دولة كبرى تنظر إلى الدول الكبرى الأخرى بوصفها أعداء محتملين ، فخوف الاتحاد السوفيتي من ألمانيا عام 1930 كان أقل بكثير من خوفها منه عام 1939 . ويكشف رد الفعل البريطاني الفرنسي على توحيد ألمانيا في نهاية عهد الحرب الباردة عن صدق هذا التحليل ، فرغم تحالف فرنسا وبريطانيا وألمانيا على مدى ما يقرب من خمسين عاما فإنهما أعربتا عن قلقهما من ألمانيا الموحدة . وخلو العالم من سلطة مركزية تلجأ إليها الدولة المهددة لتطلب منها العون وبالتالي تضطر للاعتماد على نفسها أو على اتفاق مصلحتها مع مصلحة طرف ثالث ، ولو كانت ساحة السياسة الدولية مجرد سوق اقتصادي - والكلام لميرشايمر - لما تنافست الدول الكبرى ذلك أن المنافسة السياسية قد تؤدي للحروب وهو ما يحول المنافسين إلى أعداء .
وتأتي الأحلاف ضمن الوسائل المعروفة لتعزيز الأمن لكنها " زواج مؤقت " فحليف اليوم قد يكون عدو الغد ، والأنانية مطلوبة مفيدة في عالم الاعتماد على النفس على المدى القصير والبعيد على السواء . ومنذ أن أطلق إيمانويل كانط مقولته الشهيرة " كل دولة أو كل حاكم دولة يرغب في التوصل إلى سلام أبدي بقهر العالم كله لو أمكنه ذلك " ، فإن الهيمنة ظلت أمنية الجميع حيث تعد الوضعية المثلى التي تتمنى كل دولة الوصول إليها ، ونوايا الدول الكبرى عدوانية بالضرورة !!
ولقد شهدت الفترة من عام 1815 إلى عام 1980 ثلاثة وستين حربا فاز البادئ فيها في تسعة وثلاثين منها . وتمكن بسمارك من توحيد ألمانيا بانتصاره عسكريا على الدانمرك ( 1864 ) ، والنمسا ( 1866 ) ، وفرنسا ( 1870 ) ، ولعب الغزو في القرن التاسع عشر دورا مهما في تشكيل الولايات المتحدة . ولو أن هتلر توقف بعد غزو بولندا ( 1939 ) وهزيمة فرنسا ( 1940 ) ولم يغز الاتحاد السوفيتي ربما تغيرت نتيجة المغامرة النازية .
يراد بالدولة المهيمنة الدولة التي تحوز من القوة ما يجعلها تتحكم في الدول الأخرى كافة بحيث لا تملك أي منها القدرة العسكرية على شن حرب عليها ، وهي بتعبير آخر القوة العظمى الوحيدة في نظام دولي لا توجد فيه قوى عظمى أخرى ، وبطبيعة الحال لا يلزم أن يكون لدى المهيمن القدرة على هزيمة كل منافسيه مجتمعين ، بل يكفي أن تكون هناك فجوة واضحة بينه وبين القوة الكبرى التي تليه . وبهذا المعنى فإن بريطانيا في القرن التاسع عشر كانت الدولة القائدة للنظام العالمي لكنها لم تكن الدولة المهيمنة لوجود أربع دول أخرى تعد كل منها قوة كبرى : النمسا - فرنسا - بروسيا - روسيا ) ، وهو ما يعني أن النظام الذي ساد أوروبا خلال القرن التاسع عشر لم يكن أحادي القطبية . فالهيمنة تعني السيطرة والتحكم في العالم كله . وقد تصح التفرقة بين دولة مهيمنة إقليميا ودولة مهيمنة عالميا .
ورغم أن القوى العظمى تهتم بالأساس بالدول ذات القدرات العسكرية الكبيرة بوصفها تهديدا ملموسا ، فإنها تهتم أيضا بالقوة الكامنة للدول المنافسة التي تتمتع بثراء اقتصادي ووزن سكاني كبير لأن مثل هذه الدول تستطيع عادة بناء جيوش قوية فهي تميل للخوف من أن تترجم الدول ذات الحجم السكاني الكبير النهوض الاقتصادي إلى قوة عسكرية .
وبطبيعة الحال تستخدم الدول قوتها وفقا لهرم من الأهداف يحتل قمته " البقاء " ، وتسعى الدول كذلك إلى تحقيق أهداف أخرى مثل : الازدهار الاقتصادي وترويج أيديولوجية ما في الخارج ، ورغم أن ميرشايمر يقرر أن دول أوروبا تنبهت منذ 1939 إلى حقيقة أن الأمريكيين والبريطانيين أساتذة في فن تغليف مصالحهم الأنانية القومية في عباءة الخير العام . وهذا النوع من النفاق أحد خصوصيات العقلية الأنجلوسكسونية ، فإنه يرى أن الدول الكبرى قد تسعى لنشر فكرة ما - كفكرة حقوق الإنسان - في حدود ألا يتعارض ذلك مع مصالحها . ورغم ادعاء السياسة الخارجية المثالية فإنها - قبل العدوان على العراق - لم تقم خلال مائة سنة إلا بعمل عسكري واحد لأهداف إنسانية هو تدخلها في الصومال ولم تتدخل في رواندا عام 1994 رغم حملة التطهير العرقي البشعة التي شهدتها . وتكشف الخبرة التاريخية لسلوك الدول الكبرى عن أن شاغلها ليس الدفاع عن بقائها بل تحقيق الهيمنة .
وإذا كانت الهيمنة تشكل مشكلة مزمنة للقوى الكبرى تشبه دورات العود الأبدي في استمرارها اللانهائي ، فإنها تشكل كارثة للدول الضعيفة . ففي العالم الدارويني الذي يرسمه ميرشايمر - وهو للأسف أقرب ما يكون للحقيقة - لا يحتاج أحد إلى من يذكره بمقولة " ويل للمغلوب " ، لكن المغلوب عادة يفرط في أسباب القوة فيصنف في خانة المغلوب . والعالم العربي بإمكاناته الضخمة فشل عبر تجربة خمسة عقود من تجارب التعاون والتقارب وتمني الوحدة جمع الضعف إلى التشتت واستمرأ لعبة هدر الإمكانات .
وقد يكون صحيحا أن الولايات المتحدة الأمريكية وبخاصة في ظل حكم التحالف بين اليمين المحافظ والتيارات البروتستنتية الصهيونية في الحكم تتملكه رغبات عارمة في الهيمنة بأكثر أشكالها فجاجة فإنه ليس المصاب الوحيد بمرض الهيمنة . وبالتالي فإن مشكلتنا الأولى هي في ضعفنا لا في وجود دولة دون أخرى على قمة هرم القوة العالمي ، وما لم نبدأ مسعى جديا لبناء قوتنا الذاتية فقد ينتصف هذا القرن ونحن نردد الهجائيات السياسية نفسها بحق قوة أخرى مهيمنة بعد أن نضع اسمها مكان اسم الولايات المتحدة الأمريكية .
...................
( 1 ) جون . ج . ميرشايمر أستاذ علوم سياسية بجامعة شيكاغو الأمريكية والمدير المشارك لبرنامج سياسة الأمن الدولي بها ، وهو إلى جانب ذلك واحد من ألمع المتخصصين في الشئون الدولية وصاحب نظرية في العلاقات الدولية هي " نظرية الواقعية الهجومية "
( 2 ) THE TRAGEDY OF GREAT POWER POLITICS - JOHN J MERSHEIMER - W.W . NORTON &COMPANY - NEW YORK / LONDON - 2001