لبنان اسم مكان. إنه ليس دولة أو وطناً. الدولة كيان سياسي وقانوني يقوم على إقليم وشعب وسلطة ذات سيادة. الإقليم مختلَفٌ بين اللبنانيين على رقعته ومساحته وحدوده. الشعب فيه شعوب بمعنى طوائف متنافسة، متناحرة، وأحياناً كثيرة متقاتلة. السلطة فيه ثلاث نظرياً، بحكم الدستور، وثماني عشرة عمليـاً، بحكم عدد الطوائف. وهي سلطة ضعيفة السيادة على الطوائف في الداخل، فاقدة لها أحياناً كثيرة حيال الدول في الخارج. الدولة هي التي تصنع الوطن. بمعنى أنها تحوّل الإقليم، بما هو رقعـة أرضٍ، بيتاً آمناً ودافئاً للعيش والسكن، وقيمةً معنوية تستحق الحماية والتضحية. بغياب الدولة يغيب الوطن ويتحوّل الإقليم موطنا أو مسكنا لإقامة مؤقتة أو غير مستقرة، يحكمها عقـد إيجار ذو بنود غير متوازنة يكون، غالباً، في مصلحة مالكٍ "يملكه" مالك السلطة الذي يتحكم بالعباد وبما يتيسر له من مساحة البلاد.

لبنان، إذاً، ليس دولة. إنه، سياسيا، نظام أو آلية لتوزّع السلطة والمصالح والمغانم والنفـوذ على متزعمي الطوائف والجماعات والهيئات المتفرعة عنها. وهـو، جغرافيا، ساحة وسوق وسبيل: ساحة لممارسة القوة والنفوذ وتصفية الحسابات، وسوق للبيع والشراء والسمسرة والرهن والارتهان، وسبيل بمعنى مَعْبر للقريب والغريب، والمقيم والمغترب، والسائح والمغامر، والمفكر والمتاجر، والسياسي والمقاول.
غير أن للبنان، رغم مواصفاته تلك، جانبا مضيئاً وماتعا. إنه الجانب المترع بحريّة نسبية لا تقع على مثلها في دنيا العرب، وبثقافة بل ثقافات ثرّة تجعله في حال تواصلٍ وتفاعل مع محيطه القومي والعالم الأوسع. الحرية والثقافة توأمان، وهما اللتان تعطيان لبنان، إلى جمال طبيعته، سحراً ونكهة رغم كل ما يعتوره من عيوب وما ينتابه من اضطراب.

إزاء هذه الخلفية يمكننا الاستدلال على ما يجري في لبنان في هذه المرحلة التي بدأت ظهر يوم 14 شباط/ فبراير 2005 ولمّا تنتهي بعد. إنه تاريخ اغتيال رفيق الحريري ، رئيس الوزراء السابق الذي كان ، دونما مبالغة ، ماليء الدنيا وشاغل الناس في حياته وبعد مماته.

أن يبقى الحريري شاغل الناس بعد مماته هي إحدى المفارقات التي يضج بها حاضر لبنان وربمـا مستقبله أيضا. أليست مفارقة، مثلا، أن يصبح الرجل أكثر شعبيةً ، بما لا يقاس ، بعد موته مما كان عليه في حياته ؟

في حياته، لم يكن الحريري زعيما لبنانيا، بمعنى أن زعامته لم تشمل كل الطوائف والجماعات والأوساط. بعد اغتياله، أصبحت شعبيته عامة، جامعة، ومتوقدة، تسهم فيها كل الطوائف ولو بمقادير متفاوتة. إنها الشعبية الشاملة ذات المفارقات السياسية اللافتة.

من هذه المفارقات أن إرثه الشعبي والسياسي لا ينحصر في فرد أو حزب أو طائفة ، بل يدّعي أفراد وأطراف كثر أن لهم فيه حصة ونصيباً. ابنه سعد الدين قد يكون صاحب الحصة الكبرى على صعيد أهل السنّة والجماعة، لكن أحداً لا يعترف له بهذه الحصة في الطوائف الأخرى. ثمة زعماء أو متزعمون غيره في جميع الطوائف يدّعون أن لهم في الحريري حصة وازنة، ويحاولون عبر تذكير الناس بها أن يزيدوا نصيبهم من كعكعة السلطة والنفوذ.

ومن مفارقات الساحة اللبنانية هذه الأيام أن ورثة الحريري من السياسيين كانوا من أبرز شركاء الجهة المتهمة باغتياله. ذلك أن كلهم أو معظمهم استظلوا سقف سورية في لبنان وأكلوا على موائدها وشربوا من مناهلها الشرعية وغير الشرعية ، وباتوا اليوم من أعدى أعدائها، وبعضهم لا يتوانى عن الدعوة إلى تغيير نظامها حتى لو اقتضى الأمر احتلالها على غرار ما حدث في العراق.

ليست آخر المفارقات التي ضج بها لبنان أن التظاهرة التي ملأت ساحة الشهداء في بيروت في ذكرى مرور سنة على غياب الحريري ، تمّت تحت شعــار " الوفاء للحريري والولاء للبنان". الحقيقة أن الوفاء للحريري كان حياً ، حاراً ، ولافتاً . أما الولاء للبنان فكان جزئياً وظرفيا. ذلك إن زعماء الجماهير المحتشدة كانوا موالين للبنان بقدْر ما أرادوه معاديا لسورية ليس إلاّ. الولاء للبنان نفسه كان غائباً لأن لبنان الوطن كان غائبا، ولبنان الدولة كان منتهَكاً ومستلَباً . وعندما يكون الوطن غائبا والدولة مستلبـة فإن الولاء يكون ظاهراً للطائفة وباطناً للمصالح السياسية والشخصية. وما ينطبق على معظم أركان تظاهرة 14 شباط ينطبق أيضاً على معظم أركان الجماعات الأخرى المتنافسين معهم.

هل يمكن، والحال هذه، الخروج مـن لبنان الساحة إلى لبنان الدولة والوطن ؟ وما هي التوقعات والاحتمالات ؟

الأمل محدود . ذلك أن القوى المتصارعة متعددة ومتناحرة ، والمصالح السياسية طاغية على الطموحات الوطنية المشروعة ، والشكوك والأحقاد أقوى من النيات الحسنة والإرادات الطيبة ، والتدخلات الأجنبية متواترة ومتوافرة . كل من القوى الرئيسة يريد تسويةً على شروطه وقياسه ، هذا إن كان ما يبتغيه تسوية وليس فرض إرادة سياسية كاملة . ثم أن الساحة تفتقد تيارا أو حزبا أو جبهة وطنية قوية ، عريضة ، متعددة الانتماءات الفئوية ، وذات برنامج أو رؤية معبّرة عن طموحات أكثرية اللبنانيين .

حَدَث مؤخرا أن تلاقى اكبر تيارين سياسيين – حزب الله والمقاومـة الإسلامية بقيادة حسن نصر الله من جهة و" التيار الوطني الحر " بقيادة العماد ميشال عون صاحب الأكثرية بين النواب المسيحيين الموارنة من جهة أخرى – تلاقيا على ورقة عمل مشتركة شكّلت بداية تفاهم مفتوح على القوى الأخرى القريبة في رؤاها وبرامجها . لكن ردة فعل القوى " الحريرية" على الحدث جاءت فاترة ثم أصبحت سلبية.

يتردد أن مبادرةً وفاقية من السعودية ومصر ستأخذ طريقها إلى الساحة اللبنانية قريبا، وان الولايات المتحدة لا تعارضها إن كان من شأنها تخفيف حدّة التوتر بين بيروت ودمشق ووقف ما تسميه تدخلاً سورياً في شؤون لبنان الداخلية وعرقلة التحقيق في جريمة اغتيال الحريري. وثمة من يعتقد أن الأمر يتجاوز هذا الحدّ ليصل إلى تفاهمٍ بين واشنطن والرياض على خطة ترمي إلى دفع سعد الدين الحريري إلى الاقتراب من محور نصر الله – عون لإيجاد قاعدة ثلاثية وطنية للنظام السياسي البديل من النظام الذي انهار مع إخراج سورية من لبنان . ويرى أصحاب هذا الرأي أن من شأن هذا الثالوث السياسي تهدئة المشهد المحلي والتأسيس لدفع حزب الله تدريجا إلى التحول حزباً سياسياً والاندماج عسكرياً في الجيش اللبناني.

غير أن مراقبين آخريـن للمشهـد اللبنانـي المضطرب يحذّرون مــــن " بساطة " السيناريو الأول ويرجّحون سيناريو آخر. فهم يتوقعون أن تتمسك إيران بخيارها الرامي إلى امتلاك قدرة نووية متقدمة الأمر الذي سيدفع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى التفكير جدياً باعتماد الخيار العسكري للحؤول بينها وبين امتلاك السلاح النووي. إن من شأن اعتماد الخيار العسكري جنوحُ الولايات المتحدة وإسرائيل للنظر إلى المشهد اللبناني من زاوية متطلبات معالجة المأزق العراقي والتحدي الإيراني. في هذا السياق ، قد تتجه واشنطن إلى التشديد على ضرورة تغيير سلوكية دمشق تغييراً جذرياً تحت طائلة تغيير النظام نفسه إذا أمكنها ذلك من اجل إعداد سورية لدور في ترتيب الوضع العراقي. ولعل ذلك يتطلب ، على الصعيد اللبناني ، تشديد الضغط على حزب الله للتخلي عن سلاح المقاومة وعن دورها. وفي حال امتناع حزب الله عن الإذعان لهذا المخطط ، فإن الولايات المتحدة قد تقوم في إطار حلف الأطلسي بإنزال قوة عسكرية على طول طريق بيروت – دمشق ونشر وحداتها بين المصنع وراشيا في الجنوب الشرقي لقطع الإمداد اللوجستي عن حزب الله ومقاومته بغية تطويقه وحصـره بين فكّي كماشة : القوة الأطلسية في الشمال والجيش الإسرائيلي في الجنوب.

بين السيناريو الأول والثاني ثمة مَن يتحدث عن سيناريو ثالث قوامه الضغط داخلياً وخارجياً لحمل الرئيس إميل لحود على الاستقالة بغية تمكين حكم الأكثرية النيابيـة ( الحريري وجنبلاط وجعجع) من تشديد قبضتها على كل مرافق " الدولة " وإخراج حزب الله من الحكومة وعزله سياسيا، ثم محاولة نشر الجيش اللبناني على طول الحدود مع إسرائيل. إذا امتثل حزب الله لهذه السياسـة تترسخ التهدئة ، وإذا رفض ولجأ إلى السلاح لمنع انتشار الجيش اللبناني فإنه يكون قد ضحّى بهويته ودوره كمقاومة وأضحى ميليشيا. وفي هذه الحال ، يرجّحون أن يفقد الحزب بعضاً من وهجه وقوته فيتيح بذلك لأعدائه فرصة التصدي له داخلياً وخارجياً من اجل تجريد مقاومته من السلاح.

هذه السيناريوهات ليست سهلة التنفيذ بطبيعة الحال . ذلك أن قدرة النظام السوري على الاحتمال بل على الإيذاء ليست بسيطة . كذلك الأمر بالنسبة إلى حزب الله . أخيراً وليس آخراً ، فإن الولايات المتحدة نفسها قد تتردد كثيراً في اعتماد الخيار العسكري ضد إيران نظـراً لتكلفته العالية ، بشرياً وسياسياً واقتصادياً ، الأمر الذي يقلّل تالياً من احتمال اعتماده في لبنان
الصراع ما زال في بدايته وهو مفتوح على شتّى الاحتمالات.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية