العصيان لون من ألوان التمرد. عندما يكون العصيان مسلحا يسمّونه إنقلاباً عسكريا. عندما يكون غير مسلح يسمّونه انتفاضة. أين الوضع في لبنان من هذه التسميات؟ إنه أقرب ما يكون إلى عصيان متعدد الألوان والأوصاف. لكنه يتصف في الغالب بخصائص عصيان لاعسكري. أعني بالعصيان اللاعسكري تمرداً مختلطاً، ينطوي على تظاهرات وإعتصامات ودعوة للعصيان المدني وشيء من العنف الكلامي والبدني الذي تطرّزه أحيانا تفجيرات غامضة لا يمكن نسبتها إلى عسكريين، كما لا يمكن القطع بأنها من فعل مدنيين متعسكرين أو مخابراتيين، لكن من الممكن دائما نسبتها إلى مجهولين.

وحدها السلطات الأمنية والقضائية في لبنان تسمّي الفاعلين مجهولين. الأطراف المتصارعون لا يسمّونهم كذلك بل يحرصون غالباً على إعتبار الفاعلين مجندين سريين لجهات معلومة. أبرز هذه الجهات سوريا بالنسبة إلى البعض وإسرائيل بالنسبة إلى البعض الآخر.

لماذا يجري تقديم سوريا على إسرائيل في هذا المجال ؟
لأسباب ثلاثة : الأول لأن أنصـار الرئيس رفيق الحريري، رحمه الله، والمتضررين من تغييبه نسبوا جريمة إغتياله إلى سوريا، وحرصوا دائما وبصورة أتوماتيكية على إتهامها بكل جريمة إغتيال وقعت بعد ذلك على الأراضي اللبنانية.
السبب الثاني لأن للأجهزة الأمنية السورية "صيتاً" و "رصيداً" ساطعين كوّنتهما خلال عملها الدؤوب طيلة ثلاثين سنة في لبنان.

السبب الثالث لأن أجهزة المخابرات الأمريكية والفرنسية تحرصان أيضاً ، في سياق حملة سياسية وإعلامية مغرضة ، على إتهام سوريا دون غيرها.

انه لأمر لافت ومؤسف في آن أنّ فريقا من السياسيين لا يتوانى عن تبرئة إسرائيل من الإغتيالات والتفجيرات التي تقع في لبنان، وعن الجهر بأن "العدو المرحل " بات سوريا. وهو إتهام ينبيء بأن لبنان، وليس سوريا وحدها، أضحى معرّضا لمخطط إجرامي يستهدف وحدته الوطنية والسياسية.

في سياق الإغتيالات والإتهامات والصراعات التي لفّت لبنان منذ إغتيال الحريري، نشأ إئتلاف نيابي وسياسي من القوى والشخصيات الصديقة لرئيس الوزراء الراحل والمتضررة من تغييبه والمعادية أصلا للوجود السوري في لبنان. هذا الإئتلاف العريض المعروف بإسم " قوى 14 آذار" (مارس) نظّم في 14 شباط/ فبراير الماضي إجتماعاً جماهيرياً حاشدا دعا فيه بقوة وإصرار إلى إزاحة العماد اميل لحود من رئاسة الجمهورية قبل 14 آذار/ مارس المقبل ، ذكرى مرور سنة كاملة على تأسيسه.


منذ 14 شباط/فبراير الماضي تُرشّح " قوى 14 آذار" نفسها ، كما يرشحها خصومها السياسيون والإشاعات ، للقيام بحركة أو عصيان من أجل إزاحة الرئيس اميل لحود. ويتحصّل مما رَشَحَ مـن إجتماعات " قوى 14 آذار" ، وإتهامات خصومها ، وتقارير وسائل الإعلام ان سيناريو إزاحة لحود ، الذي يشبه إلى حدّ ما سيناريو إزاحة الرئيس بشارة الخوري العام 1952 ، يتضمن الخطوات الآتية:

• إطلاق حملة سياسية وإعلامية واسعة لتبيان شلل رئاسة الجمهورية في ظل لحود وإنعدام فعاليتها.

• تنظيم حملة عرائض يوقعها نواب سابقون وحاليون، يصرحون فيها بأنهم تعرضوا لضغوط وتهديدات للموافقة على تشريع قانون تمديد ولاية لحود الرئاسية 3 سنوات في 3 ايلول/ سبتمبر 2004، الأمر الذي جعل القانون المذكور مشوباً بعيب الإكراه وبالتالي غير موجود وكأنه لم يكن ، ومركز الرئاسة شاغراً تبعا لذلك.

• استصدار قرار– توصية من مجلس النواب ، إذا أمكن ، برفْع العرائض المذكورة إلى مجلس الوزراء ، وإذا تعذّر ذلك رفْع العرائض مباشرةً الى مجلس الوزراء ومطالبته بدعوة مجلس النواب لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية.

• تشديد حملة مقاطعة لحود سياسيا وبروتوكوليا وعزله في القصر الجمهوري وسط حملة إعلامية وشعبية متصاعدة لإزاحته.


• تطويق ثكنات الجيش وقوى الأمن وحتى القصر الجمهوري ، او محيطه على الأقل ، بتظاهرات وإعتصامات شعبية ، مقرونة بإضرابات عامة ودعوة للعصيان المدني.

• تخويف قيادات الجيش وقوى الأمن الداخلي بإحتمال سقوط ضحايا نتيجة التحركات والتظاهرات والإعتصامات الشعبية التي ستحصل وبالتالي تحميلها مسؤولية التصدي لها. كل ذلك بقصد تحييد القيادات والوحدات العسكرية وترك لحود من دون حماية ، بما في ذلك الحماية المفترضة من الحرس الجمهوري.


• إقناع قائد الجيش ومدير عام قوى الأمن الداخلي بتوجيه نداء إلى لحود بالتنحي إذا ما تجاهل التحركات والتظاهرات المار ذكرها.

• محاولة إقناع كل من عاهل السعودية الملك عبد الله والرئيس المصري حسني مبارك بإسداء نصيحة إلى لحود بالإستقالة حقناً للدماء وصونا لوحدة البلاد.

• مبادرة واشنطن إلى إغراء سوريا بدورٍ فاعل في تهدئة العراق وإعادة توحيده لقاء كفّ الضغوط الأمريكية عنها وتطبيع العلاقات معها ، شريطة قيامها بالتخلي عن دعم لحود وبالتالي إقناع حزب الله بالموافقة على إزاحته .

• تتويج الضغوط على لحود بنداء لبطريرك المسيحيين الموارنة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير يدعوه فيه إلى التنحي ويسمّي الشخصية المعتدلة التي جرى التوافق على إنتخابها خلفاً له.

هل ينجح هذا السيناريو ويُضطر لحود الى التنحي ؟
الجواب يتقرر في ضؤ مواقف خمسة لاعبين أساسيين:

أولهم موقف الولايات المتحدة. هل تقرر إدارة بوش ان مقتضيات مواجهة إيران الناشطة لتصبح قوة نووية من جهة ومتطلبات الإنسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من العراق من جهة أخرى تستوجب إعادة إستيعاب سوريا وتأهيلها لتلعب دورا مهدئاً في العراق ، شريطة موافقتها على ضبط حزب الله وتدجينه وحصره نهائيا في المعادلة السياسية اللبنانية ؟

ثانيهم موقف سوريا. هل ما زال في وسعها إستجابة المبادرة الأمريكية السالفة الذكر والوفاء بمقتضياتها أم ان أوضاعها الداخلية من جهة والتحديات الخارجية البالغة الخطورة من جهة أخرى حسمت موقفها لجهة التحالف مع إيران إقليميا وتعزيز تحالفها مع حزب الله في لبنان وحركــة " حماس" في فلسطين المحتلة ؟

ثالثهم موقف حزب الله. هل يشعر بأن المقاومة الاسلامية في لبنان ستكون بمأمن من أخطار تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559 القاضي بتجريدها من السلاح إذا ما رضخ الحزب لمقتضيات التفاهم الأمريكي – السوري المحتمل ، أم انه سيشعر بان سلاح المقاومة سيبقى مهددا ودوره السياسي سيكون متراجعا اذا ما قُيّض لإئتلاف قوى الأكثرية النيابية ( سعد الدين الحريري – وليد جنبلاط – سمير جعجع) ان يستمر وان يرفع واحدا من صفوفه إلى رئاسة الجمهورية ؟

رابعهم موقف العماد ميشال عون. هل يرضخ للضغوط الداخلية والخارجية فيسلّم بالتسوية الجارية هندستها لإحلال غيره محل لحود في رئاسة الجمهورية وتقليص دوره السياسي تالياً وربما إلغائه مستقبلا، أم يقرر ترفيـع تفاهمـه مع حزب الله إلى مستـوى التحالــف الاستراتيجي ، ومواجهة الهجمة الأمريكية على لبنان والمنطقة بالتعاون مع سوريا أو من دونها، والعمل على تفكيك إئتلاف قوى الأكثرية النيابية وصولاً إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة تحمله وحلفاءه السياسيين إلى السلطة ؟

خامسهم موقــف البطريــرك صفير. هل يتراخى أمام الهجمــة الأمريكية – الفرنسية وضغوط القوى المسيحية المعادية لحزب الله وللعماد عون ولسوريا فيدعو لحود إلى التنحي لمصلحة شخصية معتدلة وممالئة لإئتلاف قوى الأكثرية النيابية ، أم يقرر المحافظة على إستقلاليته ودوره الوطني الجامع بإعتماد مبادرة منبر الوحدة الوطنية " القوة الثالثة " ( سليم الحص ورفاقه ) التي تدعو لحود إلى التنحي في إطار عملية دستورية لإعتماد قانون عادل للإنتخاب على أساس التمثيل النسبي وإجراء إنتخابات مبكرة ، فيقدّم لحود إستقالته للمجلس النيابي الجديد الذي يقوم بإنتخاب رئيس جمهورية بديل منه . هكذا يتغيّر المشهد السياسي اللبناني في مدى ستة أشهر لا أكثر: قانون إنتخاب جديد، وإنتخابات نيابية جديدة، ورئيس جمهوريـة جديد، وحكومة جديدة. كل ذلك يتمّ من خلال توافق وطني جامع ، وعملية دستورية ديمقراطية ، بأقل تكلفة سياسية وإقتصادية ممكنة.
الصراع مستمر ومحتدم ومتصاعد.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية