السلطة في لبنان، مثْلُها مثل غيرها في العالم العربي، هي دائماً موضع اختصاص وتخصيص. ممارستها من اختصاص الطبقة السياسية. وملكيتها جرى تخصيصها، أو خصخصتها، لمصلحة الطبقة السياسية المسيطرة منذ بداية عهد الإستقلال. الطبقة السياسية تشكيل ائتلافي لقوى الإقطاع ورأس المال ومتزعمي الطوائف و... قادة أجهزة الإستخبارات. وهي طبقة مثرية، مقتدرة، ومتمرسة في إعادة إنتاج نفسها في كل العهود.

تتقاسم هذه الطبقة الحياة السياسية بإتقان لافت. عندما يكون بعضها في السلطة فإن بعضها الآخر يكون في المعارضة. غير أن توزعها الشكلي بين موالاة ومعارضة لا يلغي البتة وحدانيتها التسلطية وتكاملها السياسي. فهي أشبه ما تكون بوجهين لعملة واحدة.

يحدث أحيانا أن يصل إلى السلطة او يتمكّن منها شخص على هامشها أو حتى غريب عنها. إنه الإستثناء الذي يؤكد القاعدة. لكن سرعان ما تستوعبه الطبقة السياسية، أو تتكّيف معه مرحليًا، أو تتمكن من لفظه نهائيًا.
ما حدث بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أن الطبقة السياسية اهتزت وارتبكت وتعثرت، لكنها تمكّنت في سرعة قياسية من التكّيف مع الوضع المستجد، فتخلى معظمها عن الوصي السوري المخلوع واخذ يتكيّف مــع الوصي الأميركي (والفرنسي) المفروض.

لبنان ما زال يعيش الآم فترة إنتقالية بين وصايتين. فالقوى السياسية المتحالفة استراتيجياً مع سورية ضد إسرائيل إنما للمحافِظة على استقلالية قرارها، والقوى السياسية المعارضة لسورية تقليديا إنما للمحافظة على عدواتها لإسرائيل، والقوى الوطنية المستقلة عن سورية أصلا والمعادية لإسرائيل دائمًا، تحاول التعاون والتنسيق فيما بينها من أجل منع زعماء الطبقة السياسية من شركاء سورية القدامى وأصدقاء أميركا الجدد والمستجدين من تجذير الوصاية الأميركية والتمكين لها في لبنان ضد المقاومة، لبنانيا وفلسطينيًا وعراقيًا، وضد سورية وإيران إقليميًا.

الفريق المتعامل مع الوصاية الأميركية يضم قوى 14 آذار، والأصح ان تسمى قوى 14 شباط. أما الفريق المعادي للوصاية الأميركية فيضم حلفاء سورية القدامى (حزب الله وحركة أمل ومجموعة من القوى والأحزاب الديمقراطية واليسارية). بيـن الفريقين يقف "التيار الوطني الحر" بزعامة العماد ميشال عون، الذي لا يعادي سورية ولا يتحالف مع أميركا ويدعو إلى ان يحل الأطراف اللبنانيون نزاعاتهم بالحوار وبمعزل عن الأطراف الخارجيين. كما يقف "منبر الوحدة الوطنية – القوة الثالثة" بقيادة رئيس الحكومة السابق الدكتور سليم الحص في موقع الإستقلال عن سورية، من حيث القرار والممارسة، والمؤيد لقوى المقاومة والداعم لسورية في التحالف المحلي والإقليمي والقومي ضد إسرائيل والسياسة الأميركية في المنطقة.

حزب الله والمقاومة و"القوة الثالثة" والقوى الديمقراطية واليسارية هي قطعا خارج الطبقة السياسية التقليدية. أما "التيار الوطني الحر"، فإن مجموعة كبيرة من أركانه وقاعدته الشابة تبدوان خارج هذه الطبقة وداعية إلى إصلاحات سياسية قريبة جدا من تلك التي تطرحها القوى السياسية المشار إليها آنفا.

حاولت قوى 14 شباط الاعتماد على أكثريتها العددية في البرلمان لإزاحة العماد اميل لحود من رئاسة الجمهورية بدعوى انه إمتداد للوصاية السورية، وان تمديد ولايته تمّ بالإكراه. حملتُها على لحود بلغت ذروتها في قمـة الملوك والرؤساء العرب في الخرطوم، لكنها أخفقت في بلوغ أربها. هذا الإخفاق تكرّس عمليا بإتفاق أركان المؤتمر الوطني للحوار في بيروت على تأجيل إجتماعاتهم إلى 28 الشهر الجاري من اجل معاودة بحث مسألتي رئاسة الجمهورية وسلاح المقاومة. ولكن ما من شيء يدل على انهم سينجحون في إحداث إي اختراق وفاقي على هذا الصعيد.

إزاء التحديات والصعوبات التي اكتنفت، وما تزال، تشديد قبضة قوى 14 شباط على السلطة، حوّل أركانها جهودهم بإتجاه إمرار برنامج حكومة فؤاد السنيورة الإقتصادي – الاجتماعي تحت لافتة تأهيل الوضع السياسي لتسريع عقد مؤتمر بيروت -1، المعوّل عليه لإجتذاب قروض وإستثمارات أوروبية وأميركية. غير ان برنامج الحكومة ينطوي على طائفة من المشروعات الاقتصادية والاجتماعية الخلافية والشديدة الحساسية، منها على سبيل الذكر لا الحصر: تخصيص (خصخصة) قطاع الإتصالات (الهاتف الخليوي والهاتف الثابت)، وتخصيص قطاع الكهرباء، وتخصيص مؤسسات عامة ذات طابع تجاري (الريجي أو حصر التبغ والتنباك، مطار بيروت، وطيران الشرق الأوسط) وإلغاء الوظيفة الثابتة والإستعاضة عنها بالوظيفة التعاقدية، وإعادة النظر بتقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وإلغاء الدعم )أي التخفيض المعطى لأسعار البنزين ومازوت التدفئة.

هذه المشروعات ستفتح أبوابا جديدة للصراع الاجتماعي إذ تمس بمفاعيلها شرائح كبرى وكثيفة من الشعب اللبناني. أكثر من ذلك: تشعر قوى المعارضة، لا سيما المعادية منها لإسرائيل ولأميركا، بتلازم برنامج الحكومة في ذهنها مع الرأسمالية المتوحشة التي تنتهجها حكومة السنيورة، وبأن الطبقة السياسية الفاسدة عازمة على خصخصة الإقتصاد بعدما تمكّنت على مرّ العهود من خصخصة السلطة. هذا الشعور بالسخط والمرارة من شأنه تأجيج الصراع السياسي بإعطائه بُعدا اجتماعيا ملتهبا وقابلا للإنفجار.

ما إنعكاس الصراع الإجتماعي المحتم على طاولة الحوار ؟
إن دروس التاريخ تفيد بأن الطبقة السياسية المسيطرة كانت دائما تلجأ إلى سلاح الطائفية والعصبيات الفئوية من اجل طمس التحركات الاجتماعية أو شلّها وإستيعابها. السؤال: هل يمكنها العودة الى إستنساخ تجاربها القديمة الفاشلة وسط ضائقة معيشية مرهقة ومديونية عامة جاوزت الأربعين مليار دولار أميركي؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية