ها هو حزيران التاسع والثلاثون يطوي آخر صفحة من صفحات أيامه، ويفتح أولى صفحات عامه الأربعين. انه حزيران العام 1967 من القرن العشرين المنصرم، وتحديدا الخامس منه. يومها مني العالم العربي بأخطر هزيمة، وبأفدح خسارة في تاريخه الحديث والمعاصر. ولست هنا بصدد الحديث عن هذه الخسارة والهزيمة العربيتين تحديدا، وإنما سوف أتطرق إلى ما يخص القضية الفلسطينية ببعديها الوطني والقومي العربي.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل من جديد على صعيد العالم العربي فيما يخص القضية التي كانت في يوم من الأيام "قضية العرب الأولى" ؟. وواقع الحال يجيب على الفور أن ليس هناك من جديد ولا تجديد في المشهد العربي الحالك الظلال، وتحديدا فيما يخص انعدام أية استراتيجية قومية واعدة بخصوص هذه القضية. ويظل الحدث الأكثر مأساوية يتمحور حول ما تشهده الأراضي الفلسطينية، وما يعيشه مواطنوها على مدار الساعة من تصعيد اجتياحي احتلالي خطير غير مسبوق يحمل في طياته نوايا تصفوية آخذة في الاتساع على أكثر من اتجاه، تحت ظلال مساحة شاسعة من التراجع العربي على صعيدي الأنظمة السياسية الرسمية، والشارع العربي العاجز عن فعل أي شيء.

لقد كان الخامس من حزيران عام 1967 وليد الخامس عشر من أيار 1948، وهو إضافة إلى ذلك إفراز خطير لواقع عربي مهلهل على كافة الصعد. إلا أن أخطر هذه الصعد هو إصرار كثير من الأنظمة العربية على التقوقع السيادي القطري، والتهرب من العمل القومي العربي المشترك تحت أي مسمى تصبو إليه الجماهير العربية منذ عقود من الزمان، ولكنها لم تحظ منه حتى الآن بأي قدر معقول يمكن تجنيده لخدمة القضايا العربية انطلاقا من أولى قضاياه وأخطرها وهي القضية الفلسطينية التي اتسعت مع الأيام تداعياتها وإفرازاتها وآثارها السالبة أفقيا وعموديا وفي أكثر من جغرافيا.

واستكمالا لما آل إليه المشهد السياسي العربي، فان حزيران الأول هذا ما زال ينضح إفرازات الهزيمة العربية الكبرى التي لم تجد حتى الآن من يرأب صدعها، ويمسح جرحها ويداويه. وها هي الذكرى تطل على واقع مرير يمكن استقراؤه بكل وضوح. ففيما يخص العالم العربي، فليس هناك أدنى شك انه خرج من ساحة القضية، وقطع شوطا بعيدا في الابتعاد عنها. أن القضية الفلسطينية بكل أبعادها القومية والعقائدية لم تعد من منظور عربي إلا قضية شعب يفتقر إلى مساعدات إنسانية إغاثية ليس إلا. أما القدس الشريف، والأقصى المبارك، والصخرة المشرفة، فلم يعد لها ذكر في الخطاب السياسي العربي، وهي المفترض بها أنها قضايا تخص العقيدة، والانتماء القومي العربي.

فلسطينيا، وتحت ظلال فقدان القضية لعمقها العربي، ثمة إحداث وإجراءات خطيرة يتعرض لها ما تبقى من جغرافية فلسطين وقضيتها. إن أول هذه الإجراءات هو ذلك التصعيد المستدام الخطير الذي تشهده الأراضي الفلسطينية على أيدي قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في كل مدينة وقرية ومخيم من اجتياحات واقتحامات واغتيالات واعتقالات وحصارات خانقة تطال الإنسان الفلسطيني. أما الأرض الفلسطينية، فما زال الجدار الفاصل، والاستيطان وطرقه الالتفافية تلتهما شبرا شبرا.

إلا أن الشعب الفلسطيني يشهد هذه الأيام، وجراء خياره الديموقراطي مطلع هذا العام حصارا محكما متعدد الأهداف، لم يسبق له نظير، تشارك فيه إسرائيل بتشديد وسائل احتلالها، والولايات المتحدة بكل قوتها وجبروتها ونفوذها ودعمها لإسرائيل، والاتحاد الأوروبي المنقاد للسياسة الأميركية، والأنظمة السياسية العربية بسكوتها ولا مبالاتها.

وعدا عن كونه حصار تجويع وإفقار وحرمان وخنق وإكراه على تنازلات تخص ثوابت القضية، وابتزازا لتغيير مواقف، فهو يمهد لأخطر ما يمكن إن تتعرض له القضية الفلسطينية منذ العام 1948. فها هو المخطط الإسرائيلي الذي تطلق عليه إسرائيل الانسحاب الأحادي او الانطواء، مضافا اليه مشروع ترسيم حدود دولة إسرائيل الذي أخذت تضرب على أوتاره في الآونة الأخيرة تحت مظلة الوعود الأميركية لدعم اللاءات الإسرائيلية للثوابت الفلسطينية.

وإسرائيل وأميركا ليستا بحاجة إلى مبررا ت وذرائع، فهي جاهزة ومعدة سلفا، فمن منظور إسرائيلي أميركي مشترك ليس هناك من شريك تفاوضي فلسطيني، وكيف يكون وقد وجهت اليه شتى التهم. فهو على صعيد الحكومة إرهابي. وهو على صعيد الرئاسة عاجز، لا حول له ولا حيلة ولا قوة او اقتدار. واذا كان لا بد فثمة اشتراطات تعجيزية لقبوله شريكا لا يقبلها أي طرف فلسطيني. إلا ان الأنكى من هذا كله ما يسمى قانون الإرهاب الفلسطيني الذي اقره الكونجرس الاميركي بمجلسيه، وقدمه هدية الى إسرائيل.

وكثيرة هي الأحداث والتحديات التي تلون المشهد السياسي الفلسطيني بالقتامة والكآبة. الا ان أخطرها على الإطلاق، وأشدها فتكا ما يجري على الساحة الفلسطينية الداخلية من صراع فلسطيني فلسطيني، ينذر بكثير من العواقب الوخيمة اذا ترك يستفحل ويستشري. ان الساحة الفلسطينية منقسمة على نفسها، ولم تعد رؤاها متحدة، ويخشى لا سمح الله ان تتطور الأمور الى صدام دام بين الأشقاء وأصحاب القضية الواحدة. وهذا ما يراهن عليه أعداء القضية، وسبق ان راهنوا.

في الذكرى التاسعة والثلاثين لحزيران الأسود بكل ما تحمله من شجون وأشجان وأحزان وذكريات وتاريخ طويل من منظومة رفض وتمرد وإصرار وتحد وتصد ونضال فلسطينية، فان الفلسطينيين يتساءلون هل هي قضيتهم وحدهم ؟. هل القدس قضية سياسية فلسطينية ؟. أم انها بأقصاها المبارك وصخرتها المشرفة جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية والتاريخ العربي الإسلامي ؟. والسؤال الذي يظل مطروحا وينتظر جوابه اذا كان هناك من مجيب : هل يعقل ان يترك الفلسطينيون وحدهم دون العالمين العربي والإسلامي في معترك النضال من اجل فلسطين التاريخ وقدس العقيدة ؟.

ان الفلسطينيين يعلمون يقينا ان بإمكان العالمين العربي والإسلامي ان يفعلا أكثر بكثير مما فعلاه حتى الآن، فلديهما الوسائل والإمكانيات والموارد لذلك. وهما مطالبان وبخاصة العالم العربي بحد معقول من وحدة الصف والهدف والعودة الى ثوابت القضية القومية. انه من خلال جامعته العربية وأنظمته السياسية مطالب بأمرين هامين. أولهما أن يعيد قراءة النضال الفلسطيني بروح قومية ملتزمة، ومن منطلق واحد هو شرعيته وعدالته، واستحقاقاته القومية. واما الأمر الثاني فهو على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة، والمطلوب هنا صوت عربي واحد موحد يصل الى آذان سيد البيت الأبيض.

وكلمة أخيرة إن الفلسطينيين وهم يعيشون تداعيات الذكرى السنوية لحزيران الأسود، وقبلها بأيام الذكرى السنوية لأيار النكبة، يرفعون أيديهم إلى السماء، سائلين الله العلي القدير ان يجنبهم ويلات انشقاق الصف وعواقبه الوخيمة، حفاظا على ثوابت قضيتهم المشروعة التي تتهددها النوايا التصفوية العدوانية المبيتة لهم ولها، والتي تقف بالمرصاد.

والسؤال الكبير الذي يظل يردده الفلسطينيون ومعهم المخلصون للإنتماء العروبي الصادق : متى ستخلع أشهر سنة الأجندة العربية عنها أثواب أحزانها وحدادها ونكباتها ومآسيها وذكرياتها الأليمة، متى ستصبح أيام سوداء من نيسان وأيار وحزيران وأيلول وغيرها شيئا من الماضي، ومتى ستطل على فلسطين والعروبة سنوات تحمل أشهرها بعضا من الفرح والأمل والثقة بالنفس ؟
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية