الفرنكوفونية تعريفاً هي مجموعة الدول الناطقة الفرنسية لغةً والحافظة لها ثقافةً. إنها”كومنولث”بقيادة فرنسا يجمع دولاً كانت خاضعة لإستعمارها أو واقعة تحت إنتدابها.
الفرنكوفونية غايةً هي إبقاء الدول الناطقة الفرنسية تحت جناح الدولة الأم،فرنسا، بطريق جعْلِ اللغة والثقافة الفرنسيتين جسراً للتواصل والتبادل والتعاون.
مع جاك شيراك طرأ على الفرنكوفونية تعديل لافت أصاب غايتها ومن شأنه ان يُلحق الضرر بمستقبلها. فالرئيس الفرنسي جعل من علاقاته الشخصية، لاسيما مع رؤساء الدول الأعضاء في منظمة الفرنكوفونية، أساسا لسياسة حكومته معها. لقد صادق شيراك رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وقرّبه وناصره لدرجة بات معها معياراً لعلاقته بلبنان. من الطبيعي، والحال هذه، ان يتأثر الرئيس الفرنسي كثيراً لإغتيال صديقه الأثير، فيطير وقرينته الى بيروت ليقدم واجب التعزية لأسرته ويواسيها ويتضامن معها.

هذا التضامن تجاوز نطاق التعاطف الشخصي ليبلغ مستوى التبني السياسي لصداقات أسرة صديقه المغدور وعداواتها. فقد إتهمت أسرة الحريري وأنصارها وحلفاؤها حكومة سوريا بقتل عميدها، واعتبرت رئيس الجمهورية العماد إميل لحود وقادة الأجهزة الأمنية اللبنانية وزملاءهم السوريين العاملين في لبنان شركاء ومتدخلين في تنفيذ الجريمة، حتى قبل مباشرة التحقيق فيها. فما كان من شيراك إلاّ ان حذا حذوها وبات معاديا لكل من الرئيس اللبناني والرئيس السوري بشار الأسد.
في سياق هذه السياسة اقنع الرئيس الفرنسي نظيريه الأمريكي والبريطاني بإنتهاج نهجه في التعاطي، أو بالاحرى بعدم التعاطي، مع الرئيسين اللبناني والسوري. وهكذا قاطع سفراء فرنسا وأمريكا وبريطانيا الرئيس لحود وما عادوا يطأون عتبة القصر الجمهوري، أكثر من ذلك: حاول الرؤساء الثلاثة إقناع غيرهم من رؤساء الدول والحكومات بأن يحذوا حذوهم بدعوى ان قرار مجلس الأمن 1559 يدعو إلى”إجراء انتخابات رئاسية حرة ومنتظمة وفقا للقواعد الدستورية اللبنانية من دون أي تدخل ولا نفوذ خارجي”.

بكلامٍ آخر، إعتبرت الدول الكبرى الثلاث لحود رئيساً غير شرعي وأوقفت التعاطي معه لحين إنتخاب رئيس جديد.

راق موقف أمريكا وفرنسا وبريطانيا لقوى الأكثرية النيابية الحاكمة، فأوعزت إلى رجلها في رئاسة الحكومة، فؤاد السنيورة، والى وزرائها بمقاطعة رئيس الجمهورية، فما عاد مجلس الوزراء يجتمع في مقره الخاص برئاسة لحود بل جرى التوافق على تسوية يتم بموجبها عقد مجلس الوزراء في مكان آخر وسطَ العاصمة حيث يتناوب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على ترأسه.

حاول السنيورة، بإيعاز من حلفائه، نقل المقاطعة إلى قمة الملوك والرؤساء العرب الأخيرة في الخرطوم إذ قاد وفداً خاصاً متميزاً عن الوفد الرسمي برئاسة لحود. لكن القادة العرب رفضوا هذه البدعة وكرّسوا صفة لحود الرئاسية والتمثيلية.

يبدو ان شيراك لم يرتدع رغم فشل كل المساعي والتحركات التي بذلها أعداء لحود لإزاحته عن سدة الرئاسة أو إقصائه عن تمثيل لبنان في المناسبات الرسمية. فقد أوعز سراً إلى حكومة رومانيا بعدم توجيه دعوة لرئيس الجمهورية اللبنانية للمشاركـة في قمة الفرنكوفونية القادمة في بوخارست والإكتفاء بدعوة رئيس الحكومة. واللافت انه عندما ثارت ثائرة اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، إعتراضاً على هذا التصرف المخالف للأصول والأعراف والتقاليد المعتمدة بين الدول، لم يتوانً المتحدث الرسمي بإسم الخارجية الفرنسية جان باتسيت ماتيي عن القول ان فرنســا”تتفهم القرار الذي اتخذته رومانيا. انه قـرار لا يفاجئنا، ونحن لا نعارضه”. وكان نائب وزير الخارجية الروماني قد ابلغ المسؤولين اللبنانيين خلال زيارته الأخيرة لبيروت ان بلاده تجاهلت دعوة لحود بناء على”نصيحة فرنسية”!

غير ان أسوأ ما في الموقف الفرنسي إعلان باريس في بيان رسمي ان الرئيس لحود ليس مدعواً إلى قمة بوخارست الفرنكوفونية وان لبنان سيتمثل برئيس الوزراء فؤاد السنيورة !! فرنسا، اذاً، هي من يحدد للبنان من يمثله ومن لا يمثله.. هل ثمة بيان أفصح من هذا البيان في التعبير عن سلطة الوصاية التي تفرض نفسها على لبنان بشكل يحاكي ما كان عليه الأمر في عهد الإنتداب ؟ بل هل ثمة شك في ان الفرنكوفونية أضحت في عهد شيراك، وبما يخص لبنان تحديداً، بيت الطاعة الذي يُراد للبنان “الناشز”ان يُساقَ اليه مخفوراً عملاً بالقرار 1559 ؟!

سلوكية شيراك الفظة أثارت مختلف أوساط اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، لاسيما أصدقاء فرنسا بين المسيحيين.

البطريركية المارونية اعترضت، دونما ضجة، على إنتهاك القرار الروماني شكلا، الفرنسي مضمونا، مقام رئاسة الجمهورية ومكانتها ولإسهامه في تهميشها.

رئيس الجمهورية السابق وزعيم حزب الكتائب أمين الجميل إنتقد القرار الروماني رافضاً المسّ بهيبة رئاسة الجمهورية بتغييبها عن قمة بوخارست. مثله كان موقف نائب رئيس”حزب القوات اللبنانية”جورج عدوان.

الرابطة المارونية رفضت بدورها القرار الروماني بتجاهل رئاسة الجمهورية وتهميشها ما يشكّل تجاوزاً للدستور، لا يقبل به احد.

إزاء هذه الغضبة الشاملة اضطر السنيورة إلى زيارة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير والتصريح بعد مقابلته انه تلقى الدعوة من رومانيا لكنه لم يبت بقبولها بعد، موحياً بأنه سيمتنع عن حضور القمة تفاديا لمزيـد من الحرج والإستفزاز. غير ان الدكتور سليم الحص، زعيم”القوة الثالثة”، إنتقد السنيورة كونه أخطأ بعدم رفضه الدعوة، ذلك ان رئيس الجمهورية يمثل لبنان بطبيعة الحال في القمة، وفي حال غيابه ينتدب رئيس الوزراء.

رغم الطابع الشخصاني الذي اتسم به تصرف الرئيس الفرنسي، فإن للقضية بعدا آخر، سياسياً بإمتياز. فقد إستشعر معارضو السياسة الأمريكية في لبنان وسوريا إمكانية توصل واشنطن وطهران الى تفاهم في شأن الملف النووي الإيراني الأمر الذي سينعكس إيجابا بالضرورة على العلاقات الأمريكية – السورية وبالتالي على أصدقاء سوريا في لبنان. ذلك دفع باريس الى معاودة التشدد مع لحود بما هو رمز القوى الرافضة القرار 1559 والداعية الى تحسين العلاقات مع سوريا. كما دفع الرئيس بوش، عشية إنعقاد القمة الأمريكية – الأوروبية في فيينا، الى التأكيد على التحالف الأمريكي – الأوروبي الذي”نجح في إنهاء الإحتلال السوري للبنان (...) وفي حرصه على إستعادة الشعب اللبناني استقلاله الكامل عن سوريا، حليفة إيران”!

في هذا السياق جرى ايضا تأجيل قمة مبارك – الأسد التي كانت مخصصة لمصالحة لبنان وسوريا. ذلك ان إعلان طهران عزوفها عن مفاوضة واشنطن بخصوص العراق، دفع أمريكا الى معاودة الضغط على دمشق.

هكذا يتضح ان لبنان بات، إلى مشاكله الداخلية المتفاقمة، مرآة للصراعات الدولية والإقليمية، بل ساحة لتصفية حساباتها ومنصة لمعاودة الضغط على سوريا وربما للوثوب عليها إن اقتضى الأمر.

وما كان لبنان ليصبح ساحةً ومنصة لولا انه أضحى واقعاً في حال انعدام الوزن.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية