الديناصورات جنس حيواني منقرض ارتسمت له في مخيلة العقل البشري الجامحة صورة مخيفة مرعبة,فقد كان للإعلام دوره الكبير في تصويرها في مسوح الوحوش (الإرهابية)العاشقة للدماء ,هذا مع أن علماء الاحياء يتفقون على أنها قد عاشت وانقرضت قبل خلق الإنسان بحقب طويلة يقدّرونها بعشرات الملايين من السنين ! [كما أنها لم تكن جميعا من آكلات اللحوم بل ربما كان القسم الأكبر منها وادعا مسالما يقتات النباتات والحشائش ولم يسفك في حياته ملء محجم دما. وقد عرُف عنها شهرتها بالضخامة المفرطة وبسطة الجسم دون العقل ,تلك الضخامة التي قد تُعدّ مظهرا للقوة والجبروت ,وربما كانت السبب في انقراضها لعدم قدرتها على التكيف مع الظروف الجديدة الطارئة ,فإن الديناصور إذا انزلق إلى وسط مستنقع مثلا سيجد بلا ريب عنتا وعناء في محاولته الخروج منه ,وتغدو ضخامته هنا عامل إعاقة لا ميزة تفوق,وينسحب العناء والعنت بالطبع على ساكني المستنقع من الكائنات الحية ضئيلة الحجم بسبب الاضطراب الناشىء عن محاولات الديناصور اليائسة للنجاة, وربما كانت الحسنة الوحيدة من وراء ذلك تجدد مياه المستنقع الآجنة وبعث الحيوية في جنباته الخامدة المظلمة!.
لم يكن هذا درسا في مادة الأحياء,ولكن الظروف السيئة التي تواجهها أميركا في العراق على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية تماثل بدرجة كبيرة ما قصصته لك من حال الديناصور!ولست أجد للتعبير عن حال أميركا بقيادتها الحالية أبلغ من وصف الزعيم الإيراني هاشمي رفسنجاني حينما شبهها بديناصور بعقل عصفور!ففي اجتماع الجسامة والضخامة والطيش والخفّة أعجب العجب (جسم البغال وأحلام العصافير !)
.يتمثل المأزق الديناصوري في ثلاثة جوانب :
الأول:النصر العسكري السريع الذي لم يتواكب زمنيا مع تباطؤ الاحتواء السياسي للوضع الجديد في العراق,فبينما لا يزال السياسيون يبحثون الطريقة المثلى لحكمه بقي المظهر العسكري بدلالاته المزعجة يلقي بظلال الشك والريبة على طبيعة التحرير المزعوم!.
الثاني:الاستعمال المفرط للقوة في التعامل مع الشعب العراقي ,فقد وقعت حوادث عديدة أدت إلى خلق مزيدا من الاستعداء لقوات (التحرير!) لدى العراقيين ,فحادثة مقتل شرطة الفلوجة وإطلاق النار على الأعراس والاقتحامات العنيفة للبيوت واعتقال الأبرياء بطريقة تترفع عنها الشرطة الفيدرالية مع عتاة مجرمي شيكاجو كلّها قد أسهمت في زيادة الرصيد العدائي تجاه أميركا.
الثالث:الإدارة السيئة للأزمات بسبب الاغترار بالقوة المفرطة وهو ما دفع بمخططي السياسة الاميركية للدخول في جملة من الأزمات في وقت واحد,فمع الصعوبات الكبيرة التي تواجهها الإدارة على صعيد العراق فإنّ حرب أفغانستان لا تزال متقدة لا سيما مع عودة طالبان للظهور العسكري المكثف خلال الشهرين الماضيين .كما تمارس الإدارة سياسة تأزيمية استعدائية مع ثلاثة من جيران العراق في وقت واحد (سورية ,إيران,العربية السعودية ),وكأنها تبعث برسالة مفادها أن استقرار الأمر لها في العراق سيفسح لها المجال لتصفية الحساب مع هذه الدول,مع أنها في الوقت نفسه تطلب من الدول عينها مساعدتها على إيجاد ذلك الاستقرار المكلف!.
والآن تحاول أميركا يائسة جرّ حلفائها غربا وشرقا لمشاركتها في دفع فاتورتها المكلفة لاحتلال العراق عسكريا واقتصاديا لكنها تقابل بصدود متزايد ,فلا أحد يرغب في الانغماس في المستنقع العراقي ,ومع ارتفاع الخسائر الأميركية أخذت الإدارة بالتكتم على حجمها الحقيقي ,فقد ذكر مراسل الإندبنت البريطانية في بغداد روبرت فيسك في تقرير له أنّ الأميركيين( بدأوا يتمترسون خلف نزعة متنامية من السرية بعد ارتفاع وتيرة قتلاهم وجرحاهم في العراق,وأن سلطات الاحتلال بدأت في الامتناع عن التصريح بحقيقة أعداد ضحاياها رغم وجود حوادث موثقة عن قتلى اميركيين )!ترى من سيجرؤ على أن يقذف للديناصور المتورط طوق النجاة ؟وإن تمكن من ذلك أتراه يملك القوة اللازمة لانتشاله واجتذابه ؟!.