بداية ، لا بد من مقدمة احصائية وتعريفية للحواجز الإسرائيلية التي أقامها الإحتلال الإسرائيلي منذ أربعين عاما ، يوم احتل بقية الوطن الفلسطيني في العام 1967 . بلغت هذه الحواجز حسب آخر إحصائية لها ما ينوف عن أربعمائة حاجز . وهي حواجز عسكرية مزودة بأجهزة الكترونية وكلاب مدربة ، مهمتها التفتيش على الأمتعة والأفراد ووسائل النقل المختلفة ، وما يسميهم الإحتلال بالمطلوبين أمنيا وغير ذلك .
أما أهم أشكالها فهي :
1. الحواجز الطيارة ، وليس لها مكان ثابت ، أو زمن محدد . 2. الحواجز الثابتة ، وتكون في العادة على مداخل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية . 3. السواتر الترابية ، وتكون في العادة على مداخل القرى الفلسطينية . 4. البوابات الحديدية ، والبلوكات الإسمنتية ، وتكون في العادة داخل المدن ، وبين أحيائها . 5. الحدود والمعابر ونقاط التفتيش الأخرى ، سواء تلك الدولية ، أو الفاصلة معمناطق الخط الأخضر . 6. الجدار الفاصل ، وهو أخطرها على الإطلاق كون طوله سيبلغ عند انهاء العمل به ما يزيد عن سبعمائة كم ، وقد أنجز منه حتى الآن عدة مئات من الكيلومترات .
شكلت الحواجز الامنية بكل اشكالها التي اقامها الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية منذ العام 1967 حتى هذه الايام احد اخطر اسلحة هذا الاحتلال واشدها شراسة وفتكا ، اشهرها ضد الفلسطينيين على مدار الساعة واليوم والشهر والعام مستهدفا النيل من روحهم المعنوية ، غير عابىء بكل افرازاتها الكارثية عليهم ، جاعلا منها رمزا لوجوده الاحتلالي ، وفارضا اياها بقوة السلاح كعقوبة جماعية مستدامة .
على مدار تسعة وثلاثين عاما هي عمر الاحتلال الاسرائيلي البغيض ، خبر الفلسطينيون اشكالا والوانا من الحواجز العسكرية في تزايد مع الايام ، قارب تعدادها الاربعمائة ، احاطت بمدنهم وقراهم ومخيماتهم ، مضيفة ابعادا رهيبة الى خارطة وطنهم المحتل . فثمة الحواجز الثابتة الدائمة ، والحواجز المؤقتة ، وثمة المتحركة ، وتلك الفجائية التي ليس لها مكان معين او زمان ، وغيرها من نقاط التفتيش . لقد تعددت الحواجز الا ان افرازاتها الكارثية واحدة .
لقد كانت هذه الحواجز وما زالت سببا رئيسا من اسباب ايقاع كافة اشكال الاذى والمكروه والشر والضرر على الفلسطينيين ، وعلى كافة الصعد الجيوسياسية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والصحية والنفسية . وكانت ايضا سببا رئيسا في تدهور اوضاعهم الانسانية ، ذلك انها جعلت من كل التجمعات السكانية الفلسطينية كانتونات معزولة عن بعضها ، او بصحيح العبارة معتقلات " جيتوهات " محاصرة مغلقة ومطوقة .
على الصعيد الجيوسياسي اتخذ الاحتلال من هذه الحواجز وسيلة لتقسيم الوطن الفلسطيني وتمزيقه وعزله عن بعضه ، والحيلولة دون تواصل اجزائه . والمقصود هنا الشمال الفلسطيني المتمثل بالضفة ، والجنوب الفلسطيني المتمثل بالقطاع . وهو بهذا يضع العراقيل في وجه قيام الدولة الفلسطينية التي يطالب بها الفلسطينيون ، منتهجا سياسة عدم ربطهما لغايات استراتيجية تتمثل في تأمين قدر كاف من السيطرة والتحكم له . وقد لا يصدق غير الفلسطينيين ان المسافة بين قرية واخرى او بين المدن الفلسطينية تستغرق جراء الاجراءات المتبعة على الحواجز ساعات وساعات ، واحيانا اياما ، واخرى تتطلب اسابيع لاجتيازها .
وعلى الصعيد الاقتصادي فان هذه الحواجز المقامة كانت وراء عدم تطور الاقتصاد الفلسطيني الذي عانى حالات مستدامة من الخنق والحصار ، الامر الذي افرز نسبة عالية من البطالة تجاوزت ال 60 % من القوى القادرة على العمل والراغبة فيه والباحثة عنه .
وفي ذات السياق شهدت هذه الحواجز جراء اغلاقها مئات المرات تلف المحاصيل الزراعية الفلسطينية مما ادى الى وقوع خسائر مادية فادحة تكبدها القطاع الخاص والخزينة العامة . وهذا يفسر بما لا يدع مجالا للشك الفقر المدقع الذي يعاني منه الفلسطينيون جراء عدم ازدهار اقتصادهم القائم اساسا على الزراعة – هذا عدا عن مصادرة الاراضي لغايات متعددة - ، وهو امر على ما يبدو مقصود بغية جعلهم يعيشون عالة على ما يقدمه الآخرون من معونات مشروطة ، واجبارهم على العمل في المصانع والمزارع الاسرائيلية .
ولا تقف الامور عند هذه الحدود . فالحركة التعليمية والانشطة الثقافية والعلمية وقعت هي الاخرى فريسة هذه الحواجز التي يتحكم الاحتلال الاسرائيلي في فتحها واغلاقها تبعا لمزاجه وهواه . ومثالا لا حصرا فقد ضاعت الاف الساعات التعليمية التي خسرها طلاب العلم الفلسطينيون والمسيرة التعليمية في كل مراحلها ، مضافا الى كل هذا ما لحق المؤسسات التعليمية من اغلاق وخسران لايام عمل . وهنا فاننا ننوه الى حواجز اقيمت مرارا على مداخل هذه المؤسسات للحيلولة دون دخولها .
واستكمالا لقد شهد العالم للفلسطينيين على الدوام اسهامهم المميز وانجازاتهم الرائعة في حقلي الثقافة والعلوم . الا ان هذه الانجازات قد تعرضت مرارا وتكرارا الى نكسات متعمدة جراء اغلاق الحواجز ، الامر الذي ادى الى الحد من هذه الانشطة او الغائها او ضعف المشاركة فيها او تقوقعها محليا ، دون ان يكون هناك تواصل على صعيد المشاركة داخل الوطن او خارجه .
الا ان الحديث عما تفرزه هذه الحواجز من آثار اجتماعية صحية ونفسية لا تقل اهمية عن بقية الاثار الاخرى ، بل انها في احيان كثيرة تشكل هما لا يمكن تجاهله او التغاضي عنه . فعلى الصعيد الاجتماعي ، فانها بالاضافة الى الحصارات والاطواق الامنية والاغلاقات وحالات منع التجوال المتكررة ، لعبت ادوارا خطيرة في تكريس عزلة الفلسطينيين عن بعضهم ، وحالت دون تواصل الاهل والاحبة والاصحاب ، او مشاركاتهم لبعضهم في افراحهم واتراحهم ، وهي حقوق انسانية لا يختلف عليها اثنان .
ورحلة الآلام الفلسطينية لا تنتهي ، ذلك ان هذه الحواجز تفرض عليهم الانتظار المرهق لاعصابهم ، وتجبرهم على السير على الاقدام في ظروف مناخية صعبة ، وتستهدفهم في اعاقة طواقم اسعافهم ، وفي صحتهم الجسدية بشكل مباشر . فجراء سوء الاحوال المعيشية الناجمة عن ممارسات الاحتلال ، فان الصحة العامة للمواطنين تتأثر سلبا ، ويصبح التنقل بين القرى والمدن والمدن الاخرى بغية العلاج الاكلينيكي والسريري امرا يوميا ملحا وضروريا .
وحقيقة لا يخالطها ادنى شك تخص هذه الحواجز والحصارات التي تقف للمرضى من الشيوخ والاطفال ، وللنساء الحوامل بالمرصاد . فهي من ناحية معيقة ، ومن ناحية اخرى مانعة و صادة لاي تحرك . وعلى مدار تسعة وثلاثين عاما منذ العام 1967 ، مات المئات من هؤلاء المرضى ، واجهضت المئات من الحوامل عند هذه الحواجز على مرأى من جنود الاحتلال غير المكترثين ولا الآبهين الذين تتحكم في نفوسهم مشاعر الانتقام والتشفي والحقد والكراهية والسخرية والاستخفاف ، في خرق فاضح لابسط حقوق الانسان والمواثيق الدولية .
والى هنا فانني سوف انهي حديثي عن الصعيد النفسي وكل ما يخص الكرامة الانسانية المنتهكة عند هذه الحواجز بملخص مقابلة اجرتها صحيفة " القدس " المقدسية يوم الجمعة الثالث من آذار / مارس ، العدد 13123 ، مع " ماري كريستيان " وهي متطوعة فرنسية تعمل في مجال التدريب المدني في الاراضي الفلسطينية ، وذلك بعد ان علقت ساعات طوالا عند حاجز حوارة / نابلس ، المدخل الجنوبي ، وهو واحد من عدة حواجز تحاصر نابلس .
حينما سألها الجندي : لماذا انت ذاهبة الى نابلس ؟ . قالت ماري كريستيان انها تحب نابلس . فقال لها هذا الجندي على الفور " ايضا انا احب نابلس ، ولكن بدون اهلها . وتسرد ماري بعض مشاهداتها لذلك اليوم عند الحاجز " لقد اجبر الجنود الاسرائيليون شبانا فلسطينيين على الوقوف رافعين اياديهم الى الاعلى ووجوههم الى الحائط ، بعد ان تم تجريدهم من ملابسهم العلوية ، وابقائهم بالملابس الداخلية على مرأى من اهاليهم وابناء وطنهم .
وتواصل ماري حديثها " ولم يكتف هؤلاء الجنود بما اقترفوه من اذلال واهانة في حق هؤلاء الشبان المساكين ، بل انهم انهالوا عليهم ضربا بالهراوات واعقاب البنادق وسط عاصفة من الشتائم والمسبات بالفاظ نابية تمس عامدة متعمدة المشاعر الانسانية . وتختتم ماري كريستيان كلامها " ان من يشاهد هذا الحاجز- حتى لو لم يكن متضامنا مع ابناء الشعب الفلسطيني – فانه سيصبح حتما متضامنا معه وهو يواجه كل هذه الاجراءات .
وكلمة اخيرة ، لقد كانت هذه الحواجز الاحتلالية التي تحاصر كل التجمعات السكانية الفلسطينية وما زالت رمزا لاحتلال بغيض مفروض بالقوة الغاشمة . ان الممارسات اللاانسانية التي يعامل بها الفلسطينيون عندها ما هي الا سيناريو يومي مادته منظومة عقوبات جسدية ونفسية مخطط لها ومبرمجة . وهي تتنافى مع كل الشرائع السماوية والارضية ، والاهم من ذلك انها لا تشكل مدخلا او منطلقا لاية عملية سلمية محتملة كونها ملتفة على طريق السلام العادل والمشرف .