المبادرة العربية التي أعادت إحياءها القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في الرياض العاصمة السعودية ، يمكن اعتبارها آخر ما يمكن أن تقدمه الأنظمة العربية على طبق العملية السلمية المقدم لإسرائيل . إلا أن الشهية الإسرائيلية ما زالت غير مفتوحة على مثل هذا الطـبق ، أو بصحيح العبارة فإن ذائقة السياسة الإسرائيلية تنفر منه وترفضه ، ومعدتها غير مهيأة لهضم محتوياته .
ويقينا ، إن كل المحاولات العربية لإقناع الولايات المتحدة الأميركية – على فرض أن هناك محاولات جدية - بالضغط على إسرائيل لقبول المبادرة العربية سوف تبوء بالفشل ، كسابقاتها . وببساطة متناهية ، فإن المبادرة العربية بصورتها المعلنة تتناقض كليا ووعد الرئيس الأميركي بوش الإبن لشارون بتفريغ أية عملية سلمية من ثوابت القضية الفلسطينية المتمثلة بحق العودة ، والرجوع إلى حدود العام 1967 ، وتفكيك المستوطنات ، واسترجاع القدس .
علاوة على أن هناك أربعة عشر تحفظا إسرائيليا على خارطة الطريق الأميركية ، إضافة إلى أن رؤية الرئيس الأميركي بوش الإبن فيما يخص الدولة الفلسطينية ، قد ثبت أنها حمل كاذب ، أو أنها بصحيح العبارة خدعة . وها هو العام 2007 قد أوشك على الأفول ، وعام الإنتخابات الأميركية 2008 قد أصبح على الأبواب ، حيث تتمحور كل الإهتمامات حول الشأن الأميركي الداخلي .
وفي المقابل كان هناك خط آخر مواز يكرس الاجراءات الاحادية التي مارستها السياسة الاسرائيلية على ارض الواقع ، وتمثل في بناء الجدار الفاصل ، ومصادرة المزيد من الاراضي الفلسطينية بغية التوسعين الافق والرأسي في مجال الاستيطان ، وشق الطرق الالتفافية الانفصالية ، عدا عن الاجراءات المتلاحقة فيما يخص تهويد القدس العربية .
واذا كانت هذه هي اجراءات دأبت كل الحكومات الاسرائيلية ايا كان لون طيفها السياسي على السير الحثيث بها ، فهناك كانت على الدوام تلك اللاءات الاسرائيلية المعروفة لحق العودة ، وحدود العام 1967 ، وتفكيك المستوطنات التي اقيمت على اراض فلسطينية مغتصبة ، واعادة القدس الشرقية للفلسطينيين ، اضافة الى رفض تخليها عن المعابر والحدود ومنطقة الأغوار ، ومصادر المياه والثروات الطبيعية ، والهواء ، وغيرها .
وعودة الى موضوع الشريك المفاوض . فمما لاشك فيه ان إسرائيل ترفض مبدأ التفاوض الحقيقي مع أية جهة فلسطينية أيا كان لونها السياسي . وانطلاقا من هذه الحقيقة التي لا ريب فيها ، فاننا لوفرضنا ان حكومة الوحدة الوطنية بكل أطيافها الفصائلية قد اعترفت باسرائيل ، وبمبدأ قيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية ، وبخارطة الطريق ، فما الذي يضمن ان اسرائيل لن تضع كعادتها العراقيل ، ولن تشترط الاشتراطات التعجيزية ، ولن تماطل ، ولن تتحفظ ، ولن تجد الذرائع للتملص ، كما فعلت في مرات سابقة ؟ .
وهنا تتبادر الى الاذهان اسئلة كثيرة تطرح نفسها . اولها : هل سبق في تاريخ السياسة الاسرائيلية ان اعلنت اسرائيل صراحة وبصدقية ان هناك شريكا فلسطينيا يمكن ان تتفاوض معه ؟ . وثاني هذه الاسئلة : هل ان لدى اسرائيل ما تقدمه للفلسطينيين غير منظورها للحل القائم على فرض رؤاها ولاءاتها وسياستها التوسعية ؟ . وثالث هذه الاسئلة : لماذا قامت اسرائيل بعملية الانسحاب الاحادي من قطاع غزة ، ملتفة على مبدأ التفاوض ، ولم تكن آنذاك قد قامت حكومة حماس ، أو الوحدة الوطنية ؟ . ورابع هذه الاسئلة ، وقد لا يكون الاخير : ماذا كان مصير الرئيس الراحل ياسر عرفات حينما رفض ما أملي عليه يومها من إملاءات أفرغت القضية الفلسطينية من محتواها ؟ .
إنه غيض من فيض ، وثمة الكثير من الأسئلة التي يمكن ان تثار في هذا الصدد . فلقد تعلم الفلسطينيون من خلال تاريخ طويل من معاناتهم بان اسرائيل لا تؤمن الا بالقوة ، وفرض الأمر الواقع . وهي لا تريد ان تنسى انها انتصرت عسكريا قبل أرعين عاما ، رغم انها لم تهزم خصمها صاحب الحق في الصراع ، وهو الشعب الفلسطيني الذي لم ينكسر ، ولم يتنازل عن حقوقه التي كفلتها له الشرعية الدولية .
وحقيقة الامر لقد تنازل الفلسطينيون تنازلات مؤلمة عن الكثير على شرف السلام المفترض ، والتسوية العادلة في الشرق الاوسط اللذين لا تلوح لهما بارقة أمل في أي أفق . وهم في هذا ظلوا واقفين عند خطوط حمراء فيما يخص ثوابت قضيتهم الأساسية التي لا يمكن لأي مفاوض فلسطيني كائنا من كان ان يتجاوزها ، أو يدعي انه مفوض من شعبه في الوطن أو الشتات ان يتجاوزها . فهي في شرع القضية الفلسطينية من الكبائر والمحرمات .
واستكمالا ، لا بد لنا من التنويه الى المبادىء والأسس العامة المتعارف عليها دوليا ، والتي تقوم عليها أساسا اية مفاوضات بين أطراف متخاصمة ، كون المطلوب من الشعب الفلسطيني لا يتقاطع معها في أي من نقاطها التي أقرتها الشرعية الدولية والعلوم السياسية وتجارب الشعوب السابقة التي خاضت معترك المفاوضات مع القوى الاستعمارية التي احتلت بلادها وحكمتها ، والتي اسفرت في النهاية عن حل رضيت عنه هذه الشعوب ، كونها هي صاحبة الارض والحق .
من أولى هذه الاسس والمبادىء ان التفاوض يكون بين اطراف متعادية ومتخاصمة . وثانيتها لا يفترض ان تعترف ببعضها مسبقا ، وإنما يتم الإعتراف النهائي بعد الإتفاق على شروط التفاوض ، وساعتئذ فان من منجزات التفاوض ونتائجه الناجحة إنهاء العداوة ، والتأسيس لمستقبل يسوده السلام والوئام والتعاون وتطبيع العلاقات على أسس راسخة من العدالة والقناعات .
وهكذا يفهم الفلسطينيون مبادىء التفاوض وأسسه . وزيادة على ذلك ، فانهم هم الذين وقع عليهم الظلم التاريخي ، وهم المعتدى عليهم ، أرضا وشجرا وحجرا ، وهم المحتلة بلادهم ، وهم المشردون خارج حدود وطنهم التاريخي في ظروف تنتفي فيها أبسط بسائط ما تتمتع به الشعوب الأخرى من تحرر وحرية وسيادة واستقلال ، وحقهم في دولة تجمع شتاتهم يمارسون تحت ظلالها حقهم في حياة حرة شريفة .
في ضوء هذه الحقائق ، فان اسرائيل لا تعترف من حيث المبدأ بالفلسطينيين أيا كان لونهم السياسي شريكا تفاوضيا لأية عملية سلام حقيقية . واذا كان لا بد من شريك مفاوض فهي تريده " مفصلا " وفق مقاسات سياساتها التوسعية الإستيطانية التهويدية . وهي تفترض بهذا " الشريك " مواصفات لا تنطلق من استحقاقات القضية الفلسطينية ، ولا تداعيات النكبة التي تنكر مسؤوليتها عنها ، ولا حتى من مبدأ السلام مقابل الأرض ، ولا انطلاقا من قرارات الشرعية الدولية 194 ، 242 ، 338 ، وغيرها الكثير .
وكلمة اخيرة . ان هذا " المفاوض " الفلسطيني الذي تسعى السياسة الاسرائيلية الى إيجاده وفقا لمنظورها هو مفاوض موجود في مخيلتها ، وهي تعلم يقينا ان وجوده على أرض الواقع مستحيل ، ولذا فهي تارة مماطلة ، وأخرى ممتنعة ، وثالثة مشترطة ، ورابعة رافضة ، وخامسة مضيفة بعدا جديدا إلى رفضها مبدأ التفاوض يتمثل في إلصاق تهمة الإرهاب والعنف إلى الفلسطينيين ، وعدم الإعتراف بحقهم المشروع في التحرر والإستقلال ومنظومة حقوقهم الأخرى . واسرائيل في هذا وذاك لها من يشد على أيديها ويدعمها ويؤيدها في أميركا وأوروبا ، وتحت ظلال صمت العالم بعامة ، والعالم العربي بخاصة .