لم تحظ قضية في العصر الحديث ، بما حظيت به القضية الفلسطينية ، وها هي على وشك أن تنهي عامها التاسع والخمسين ، وتدخل الستين ، بهذا الكم الهائل من القرارات الدولية والمؤتمرات واللجان واللقاءات والزيارات والتحركات والطروحات والرؤى واللقاءات وغيرها الكثير الكثير من شاكلة هذه الآليات السياسية . ويقينا لو وضعت في كفة ميزان ، وفي الكفة الأخرى ما خص قضايا العالم منها ، لرجحت كفة القضية الفلسطينية . ولا يعني هذا بأية حال من الأحوال الإهتمام المفترض بالقضية فيما يخص الطرف العربي بعامة ، والطرف الفلسطيني بخاصة . ولو كان الأمر كذلك لحلت القضية منذ زمن بعيد ، وأخذ كل صاحب حق حقه ، وانتهى الأمر .
ولسنا هنا بصدد إعادة الحديث عمن هو المستفيد من هذا اللف والدوران والمماطلة والغش والكذب والخداع ، وهي العناوين الحقيقية لكل هذه الآليات التي ابتليت بها القضية الفلسطينية منذ أول يوم نكب به الشعب الفلسطيني حتى أيام الحصارات والإغلاقات الخانقة الحالية ، والمحاولات الحثيثة لإفراغها من مضامينها الأساسية ، وتحويل عنوانها الحقيقي إلى عنوان آخر يتمثل بالسلام والتطبيع مع إسرائيل أولا وأخيرا .
ومثالا لا حصرا ، وبغية التذكير ليس إلا ، فشلت مسرحية أوسلو ، وأجهضت رؤية الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن عن الدولة الفلسطينية ، أو بصحيح العبارة ولدت ميتة ، وأسقطت خارطة الطريق منذ أن وضع عليها أربعة عشر رفضا " تحفظا " إسرائيليا . ولم يبق في الميدان إلا الرباعية الدولية ( الولايات المتحدة وروسيا الإتحادية ، والإتحاد الأوروبي ، والأمم المتحدة ) . ولسنا هنا بصدد الخوض في هذه التشكيلة المكونة للرباعية ، فإن أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها تسير في المدار الأميركي ولا تخرج عنه ، وأكثر من ذلك ، فهي منذ تأسيسها لم تفعل شيئا يذكر .
ومؤخرا تكونت رباعية ثانية هي الرباعية العربية ( المملكة العربية السعودية ، المملكة الأردنية الهاشمية ، جمهورية مصر العربية ، دولة الإمارات العربية المتحدة ) ، والتي كانت ثمرة القمة العربية الأخيرة التي عقدت في الرياض العاصمة السعودية ، وقد كلفت بتولي ملف المبادرة العربية ، بغية شرحها لمن يهمه الأمر ، وهي هنا إسرائيل والرباعية الدولية .
ولغاية في نفس السياسة الأميركية ، خططت لجنة الوساطة الرباعية الدولية في الشرق الأوسط للقاء مسؤولين من الدول الأربع المكونة للرباعية العربية في منتجع شرم الشيخ المصري ، من المفترض أن يتم يوم الجمعة في الرابع من أيار / مايو ، بغية بحث مبادرة السلام العربية .
وحقيقة الأمر ، وعلى ما يبدو فإن الهدف الرئيس لهذا الإجتماع هو محاولة واشنطون " تعزيز مبادرة السلام العربية " ليس إكراما لها ، بقدر ما هو مقصود من جعل دول عربية مثل المملكة العربية السعودية التي لا تعترف بإسرائيل ، أن تتعامل علنا مع الدولة اليهودية ، الأمر الذي رفضته السعودية ، كما أكد مسؤول عربي كبير في الرياض لوكالة فرانس برس أن السعودية رفضت اقتراحا أميركيا بعقد اجتماع اللجنة الرباعية الدولية مع اللجنة الرباعية العربية وإسرائيل .
وفي ذات السياق ، أبدى مسؤولون أميركيون مشاعر إحباط جراء تكليف جامعة الدول العربية دولتين عربيتين هما مصر والأردن - وهما البلدان العربيان الوحيدان الموقعان على معاهدتي سلام مع إسرائيل – للإتصال بإسرائيل لشرح تفاصيل المبادرة العربية . وبرغم هذا فإن الأمل ما زال يحدو المسؤولين الأميركيين بأن تتفق الدول العربية في نهاية المطاف مع إسرائيل . وهذا على أرجح الأحوال الهدف الأميركي الرئيس ، وليس أي جانب من جوانب القضية الفلسطينية التي هي مجرد جسر مؤقت لعبور إسرائيل الدائم إلى العالم العربي .
وهكذا فان الولايات المتحدة تصول وتجول في ملعب اللجنة الرباعية ومعها إسرائيل بحرية شبه تامة ، وتفرض رؤاها ومفاهيمها وإرادتها . ومن المؤكد أن القضية الفلسطينية لا تعنيها بأي شكل من الأشكال ، وإن ما يعنيها هو تجاوز هذه القضية ، أو بصحيح العبارة إفراغها من ثوابتها الأساسية التي رغم تقادم الزمن ، مازال الشعب الفلسطيني متمسكا بكل حذافيرها .
أما فيما يخص الرباعية العربية التي كلفت بملف مبادرة السلام العربية ، فثمة أسئلة كثيرة تفرض نفسها في هذا السياق . أولها : هل هناك ما لا تعرفه أميركا وإسرائيل عن هذه المبادرة ؟ . أو لم ترفضها إسرائيل في العام 2002 ، وكان ردها المباشر اجتياح الأراضي الفلسطينية ؟ . ألم تشترط لقبولها في العام 2007 قبول لاءاتها الأربع لحدود العام 1967 وتفكيك الإستيطان ، وحق العودة ، واستعادة القدس ، مضافا إليها حقها في اختيار شكل الكيان الفلسطيني الذي يمكن أن تتكرم بعد ذلك بقبوله ؟ .
وإذا ما كان هذا يخص الرباعية العربية وإسرائيل ، فثمة أسئلة أخرى تفرض نفسها فيما يخص الولايات المتحدة الأميركية التي منح رئيسها الحالي جورج بوش الإبن وعدا لحكومة إسرائيل بتجريد القضية من ثوابتها . وأول هذه الأسئلة : هل هناك تفكير في مراجعة الولايات المتحدة فيما يخص وعد الرئيس الأميركي لإسرائيل ؟ . وثاني هذه الأسئلة : كيف يمكن أن تكون هناك عملية سلمية تحت ظلال هذا الوعد الأميركي الذي ينسف كل ثوابت القضية الفلسطينية ؟ .
وثالث هذه الأسئلة الذي يفترض أن يوجه للرئيس الأميركي : أين الرؤية التي بشر بها الفلسطينيين بخصوص الدولة الفلسطينية ، وها هي ولا يته قد آذنت على الإنتهاء ؟ . ورابع هذه الأسئلة : ماذا تتوقع الرباعية العربية من أميركا وإسرائيل اللتين لم تخفيا نواياهما ورؤاهما فيما يخص مبادرة السلام العربية التي ما زالت مرفوضة ، كون الهدف هو الوصول إلى العالم العربي ليس إلا ؟ .
وأيا كان الأمر ، فليس ثمة ما يمنع من التحرك العربي في كل الإتجاهات ، وطرق كل الأبواب ، ما دامت الأنظمة العربية قد التجأت إلى هذا الخيار الوحيد ، وهي لا تملك سواه في الظروف الراهنة ، جراء ما آل إليه المآل في العالم العربي من عجز وضعف وتفرق صف وهدف وكلمة وموقف .
إلا أن أمرا هاما يظل قائما ، ولا ينبغي الإقلال من أهميته القصوى ، يتمثل في رفض حكومة المملكة العربية السعودية أن تشارك في اجتماعات الرباعيتين مع إسرائيل . لقد خسر العرب في الماضي كثيرا من أوراق اللعبة السياسية مع إسرائيل ، ولم يبق منها إلا النذر اليسير ، وهذه واحدة منها . والمأمول فلسطينيا أن تحذو كل الأقطار العربية هذا الحذو المبارك .
وكلمة أخيرة ، إننا على يقين أن الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل سوف ترفضان المبادرة . إن إسرائيل لا تفكر بالسلام الجاد مع الفلسطينيين عبر إنهاء احتلالها لبلادهم ، وإعادة الحقوق التي اغتصبت منهم . وكما يقول المثل " لو أن هناك مطرا ، لكان هناك غيم يبشر بقدومه " . إن الغيم الوحيد الذي يظلل المشهد الفلسطيني العام يتمثل في الإصرار الإسرائلي على المزيد من الإستيطان ، واستكمال جدار الفصل العنصري ، والخطى الحثيثة في تهويد القدس ، إضافة إلى ممارساتها الإحتلالية الكارثية التأثير على الشعب الفلسطيني . وإن غدا لناظره قريب .