كثيرة جدا هي المرات التي ارسلت فيها إسرائيل رسائل واضحة ، لا تقبل التأويل ، تتمثل في رفضها لخيار السلام العربي . ومثالا لا حصرا ، رسالة الإجتياح الكبير للأراضي الفلسطينية غداة ولادة مبادرة السلام العربية ، كأحد منجزات قمة بيروت في العام 2002 . ويومها غفت هذه المبادرة ، وظلت في طور الكمون .     وبين العامين 2002 و 2007 الحالي ، كانت هناك خمس سنوات ، انفرد الإسرائيليون بالفلسطينيين ، أذاقوهم فيها الأمرين ، جراء الحرب الشرسة التي أعلنت عليهم ، وكانت سهام الرسائل الإسرائيلية موجهة صوبهم ، متمثلة في مسلسل اجتياحات مدمرة للحجر والشجر والبشر . وكانت شهية إسرائيل لافتراس المزيد من الأراضي الفلسطينية مفتوحة على مصراعيها كعادتها دائما وأبدا ، بغية توسيع خارطة الإستيطان وتكريسها على أرض الواقع . ولم تنج القدس من سهام التهويد التي أصابتها في الصميم .

    وقبل أسابيع معدودة ، عقدت القمة العربية التاسعة عشر في الرياض العاصمة السعودية . وقد أحيت هذه القمة المبادرة العربية من مرقدها ، وأوكلت أمر شرحها وتسويقها إلى رباعية عربية " السعودية – الأردن – مصر – الإمارات العربية " لكل من يهمه الأمر ، وفي مقدمتهم إسرائيل التي هللت وكبرت ، ليس للمبادرة التي رفضتها وواجهتها بلاءاتها الأربع " لحق العودة ، والقدس ، وتفكيك المستوطنات ، والعودة إلى حدود العام 1967 " ، وإنما لكون الرباعية العربية تمثل الجامعة العربية . وهذا ما أثلج صدر إسرائيل ، كونها وضعت رجلها على طريق العبور إلى العالم العربي .
    أما ما يخص مبادرة السلام العربية ، وهي الخيار العربي الوحيد ، فإن الرد الإسرائيلي عليها لم يتغير البتة . إنها تشترط لقبولها إفراغها من ثوابت القضية الفلسطينية التي طالما أشهرت لاءاتها في وجهها . وإمعانا في التأكيد على رفضها ، وإضافة إلى مسلسل الإجتياحات المستدامة ، أعلنت إسرائيل منذ أيام اعتزامها بناء حيين إستيطانيين جديدين في القدس ، يضمان عشرين ألف وحدة سكنية . وبذا فإنها تستكمل ترسيم خارطة تهويد القدس جغرافيا وديموغرافيا ، وتحجيم طابعها العربي الإسلامي وتقزيمه .
    إنه الإستيطان . والإستيطان من منظور إسرائيلي ، لا يعني مجرد اغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينية ، ولا مجرد إقامة الوحدات السكنية وما يتبعها من مرافق ، ولا إنشاء الطرق الإلتفافية ، ولا بناء جدار العزل العنصري فحسب ، وإنما هو تكريس لكيان واحد وحيد على الأرض الفلسطينية هو الكيان الإسرائيلي ليس إلا . أما ما يسمى بالعملية السلمية بكل مسمياتها وأشكالها ، فهي مجرد مهدئات سياسية ، تقتضيها طبيعة الظروف الآنية ، وسرعان ما تفقد مفعولها ، ويتم الإنتقال إلى سواها ، وهكذا دواليك .

    إلا أن الأخطر من هذا كله هو تمسك الأنظمة العربية بخيار واحد " خيار السلام " على علاته ، وثبات فشل مركباته ، وعدم جدواه ، تحت ظلال الرفض الإسرائيلي الذي هو دون أدنى شك يشكل استراتيجة سياسية غير قابلة للتغيير .
    وهنا تتبادر إلى الأذهان اسئلة لطالما رددها المواطنون الفلسطينيون ، وهم يرقبون بحسرة وألم ما آلت إليه أحوال العالم العربي الذي يعيش حالة فريدة من انعدام الوزن السياسي والإقتصادي والثقافي : لماذا هذا الإصرار العربي على خيار يعلمون يقينا أنه مرفوض من قبل الطرف المعني ؟ . لماذا لا يكون للأنظمة العربية بدائل أخرى ، وليس المقصود هنا البديل الحربي ؟ . هل هذا عجز أم تعاجز ؟ . هل هذا نتاج إراداتهم ، أم أنه طرح مفروض عليهم تسويقه بأي ثمن كان ؟ .
إن الأسئلة كثيرة . وحقيقة الأمر إنها تساؤلات استنكارية ، وأجوبتها معروفة مسبقا . لكن الأهم من كل هذا سؤال لا بد من طرحه : هل تعرف الأنظمة العربية ما يدور في تفكير المواطن الفلسطيني تجاه هذا كله ؟ . ونحن هنا نجيب مقتبسين إجابتنا من بيت الشعر العربي       إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة  -  وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم .

أجل إن الأجوبة باتت معروفة للقاصي قبل الداني ، والمصيبة الفلسطينية أصبحت أعظم . إنها تنطلق جميعها من كون الأنظمة العربية ، قد تخلت عن القضية التي كانت ذات يوم قضية العرب الأولى . إن الأنظمة العربية قد التزمت جانب الحياد والمشاهدة عن بعد ، واجترار خيار سلام لا يسمن ولا يغني من جوع .
فلسطينيا ، ان الاستيطان يعني شرعنة استلاب الارض التي هي مادة الوجود الفلسطيني الرئيسة . والفلسطينيون لا يتصورون سلاما دائما مع استلاب هذه الاراضي ، وهي ليست أية اراض وانما هي منتقاة ومختارة بعناية تؤدي وظائف تخدم اهدافا احتلالية استراتيجية جغرافية وديمورافية بعيدة المدى .
وللتذكير فإن الأراضي التي يقوم عليها الاستيطان الاسرائيلي هي قمم الجبال والمرتفعات الفلسطينية التي تشكل مواقع أمنية واستراتيجية للتحكم بكل التجمعات الفلسطينية والاشراف على طرق مواصلاتها . وهي خيرة الاراضي الخصبة التي يعتاش على غلالها الفلسطينيون وهي الاراضي التي تشكل مخزونا اسراتيجيا ديموغرافيا لاستيعاب الزيادات الناجمة عن النمو السكاني الطبيعي .

 وهي اخيرا لا آخرا أراضي آبائهم واجدادهم منذ آلاف السنين . وهي القدس التي تشكل مساحة مرموقة من التاريخ العربي الإسلامي ، والعقيدة الإسلامية . وهي الأقصى المبارك الذي يتربص له من يسمون بأمناء الهيكل المزعوم .

وفي حقيقة الامر ان إسرائيل منذ العام 1967 ، لم تهدأ جرافاتها لحظة واحدة بغض النظر عن ألوان السياسات التي كانت تحركها يسارية ام يمينية ام وسطية ، او سواء كانت اسرائيل في حالة حرب مع العرب ، أو تحت ظلال العملية السلمية التي يفرتض انها قامت على اساس مبدأ الأرض مقابل السلام .  ان الاستيطان من منظور إسرائيلي هو خارج معادلة أي سلام . وعلى ما يبدو ان اقصى ما يمكن ان تقدمه اكثر السياسات الاسرائيلية تسامحا وتساهلا هو فترة استراحة لجرافاتها والياتها الاخرى ، تلتقط انفاسها خلالها استعدادا لنشاط موعود جديد ومخطط له .

إن الشعب الفلسطيني الذي دخلت نكبته عامها الستين ، والذي يستعد لإحياء الذكرى السنوية الاربعين لاحتلال كامل تراب وطنه ، مدرك تماما أن المشروع الإستيطاني الصهيوني ، لا يتقاطع بأية نقطة مع مبادرة السلام العربية ، ولا يحسب لها أي حساب يذكر، وأنه ماض غير آبه بها ، ولا يمكن في يوم من الأيام أن تشكل مدخلا للسياسة الإسرائيلية التي عودته الأنظمة العربية على عدم جديتها فيما يخص كل طروحاتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية .
وخلاصة القول ، لقد اعتاد الشعب الفلسطيني على شتى اشكال الظروف القاهرة  ، وهو من المناعة بحيث ان ظرفا ما ايا كان لن يقدر على احباطه او تدمير قواه الذاتية التي حافظ عليها عبر اقسى نضالاته . وهو مدرك وواع ومستعد لكافة الاحتمالات ، واولاها فشل العملية السلمية برمتها . وفي هذه الحال لن يكون هو الخاسر الوحيد . ورب ضارة نافعة . فلعل هذا الفشل المحتم ، يفتح آفاقا أخرى ، ولعله يطرح خيارات عربية ذات مصداقية ، تكون نابعة من إحساس عروبي لم يعد يحتمل الإنتظار على واقعه المرير.

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية