أربعون عاما مرت على أول حزيران ، منذ العام 1967 . أربعون حزيرانا ، وما زال حزيران نفقا طويلا مظلما ، لا يلوح بصيص نور في آخره . أربعون عاما ، تفرز أحشاؤها كل يوم ، كل ساعة ، كل دقيقة ، مزيدا من السطور على صفحات تاريخ النكبة الفلسطينية . هذه النكبة التي دخل الفلسطينيون عامها الستين . إننا ، ونحن نتحدث عن حزيران ، وتحديدا الخامس من أيامه ، وما تلاه من أيام ، فإننا في هذه العجالة لن نوفيه حقه . إن حزيران سفر تاريخ طويل ، ما زالت صفحاته مشرعة لمزيد من التحديات والجراحات والمآسي والأحزان ، وهي تنهال على الشعب الفلسطيني من كل حدب وصوب . إلا أن هذا الشعب ما زال واقفا ، لم تلن له قناة ، ولا طأطأت رأس ، ولا نالت منه الأيام منالا .
ويحار الكاتب منا ، وهو يحمل القلم ليكتب عن هذه الذكرى ، وما تفرزه كل طالع شمس ونهار . عن ماذا سيكتب ؟ . عمن سيكتب ؟ . هل هناك شيء لم يكتب عنه الكتاب ؟ . وبرغم هذا وذاك ، فسوف نظل نكتب عن كل ما يخص القضية الفلسطينية وإفرازاتها وتداعياتها ومستجداتها . عن خدعة العملية السلمية . عن أكذوبة رؤية الرئيس بوش الإبن حول الدولة الفلسطينية . عن مهزلة خارطة الطريق . عن أسطورة الضمير العالمي . عن سذاجة لعبة التهدئة . عن صمت الأشقاء المريب . عن فقدان العمق العروبي القومي . وأخيرا لا آخرا عن شعب القضية الذي لا يقهر ، وهو يجر خطاه الدامية في طريق الآلام .
في الذكرى السنوية الأربعين لحزيران ، نعرج على العراق . نقرىء أهلنا الفلسطينيين هناك السلام . نرفع أيدينا إلى السماء ، سائلين العلي القدير ، ولا نسأل إلا إياه ، أن ينشلهم من نار الأحقاد التي أصبحوا في مرماها . إنهم هناك يقتلون بدم بارد ، يعتقلون ، يطردون من منازلهم غصبا وقسرا . ينفون إلى مخيمات جديدة ، تذكرنا بمخيمات النكبة الأولى . وشتان بين الحالتين . تلك كانت على أيدي المغتصبين . وهذه على أيدي من يفترض أنهم الأشقاء العرب .
في الذكرى السنوية الأربعين لحزيران ، نقف أمام مداخل مخيم نهر البارد في طرابلس لبنان . نسمع دوي قذائف المدافع والصواريخ والمتفجرات ، وهي تدك مباني هذا المخيم . نرى الآلاف من سكانه يهربون من جحيمه ، يبكون شهداءهم الذين قتلوا دونما ذنب اقترفوه ، يحملون جرحاهم ، يتساءلون بحسرة عمن فقدوهم من الأهل والأحبة . نسمع صيحات الأمهات والزوجات والأخوات والأطفال ، وقد ضاقت بهم السبل هائمين على وجوههم . وسؤال كبير كبير بحجم المأساة الفلسطينية : لماذا وألف لماذا ؟ .
ونعود إلى ربوع الوطن المحتل . ها هي النيران تعصف به من كل حدب وصوب . الأولى نار الإحتلال الذي كثف ممارساته القمعية على الأرض الفلسطينية ، عبر اجتياحاته التدميرية للبشر والحجر والشجر . لقد قتل واعتقل ، دمر وهدم ، جرف الأرض ، صادرها ، أقام عليها مستوطناته وطرقها الإلتفافية ، وجداره العازل .
وها هو يشن حربا لا هوادة فيها على كامل التراب الفلسطيني . طائراته الحربية ، مروحياته القتالية تصطاد الفلسطينيين دون رحمة . قذائفه ، صواريخه تنهال على المنازل الآمنة والمتاجر والسيارات ، تفجرها ، تقتل من فيها . جرافاته لم تهدأ يوما . شهيتها الشرهة مفتوحة على التجريف والهدم والتدمير . وها هي حواجزه ، تحيل الأراضي الفلسطينية إلى معتقلات وسجون . ها هي حصاراته وإغلاقاته وأطواقه الأمنية ، لا تنفك تحيل الحياة الفلسطينية إلى جحيم تصطلي بناره ليل نهار .
إنه الإحتلال الذي أفرزته السياسات الإسرائيلية التي لا ترغب في تأسيس سلام عادل ومشرف مع الفلسطينيين . إنها السياسات التي ما زالت تشهر لاءاتها في وجه الحق الفلسطيني في الأرض والدولة والقدس ، وقبل هذا وذاك تنكر حق العودة الذي أقرته الشرعية الدولية عبر منظومة من قراراتها .
والنار الثانية ، نار الإقتتال الفلسطيني الفلسطيني ، واستباحة الدم على أيد فلسطينية . إنها نار الفلتان الحضاري ، وبعض منها الفلتان الأمني الذي فت في عضد المواطنين الفلسطينيين ، فأوصلهم إلى شفير هاوية اليأس والإحباط والنظرة السوداء للمستقبل . ويشهد الله أنه ما كان إلا صراعا على المناصب وكراسي الحكم ، وليس لوجه القضية الفلسطينية التي تئن تحت وطأة هذا الإلتفاف عليها من أبنائها .
والنار الثالثة ، يوقدها هذا الحصار السياسي الإقتصادي الدولي الظالم للشعب الفلسطيني ، تقوده الولايات المتحدة الأميركية ، وينصاع له الإتحاد الأوروبي ، والكثير من الدول الأخرى الدائرة في الفلك الأميركي ، والتي تدعي أنها المجتمع الدولي .
لقد أفرز هذا الحصار اللامبرر تدهورا خطيرا في الإقتصاد الفلسطيني ، الذي هو أصلا هش العظام . لقد تدنت معيشة الفلسطينيين إلى مستويات غير مسبوقة ، وازدادت أعداد من أصبحوا دون خط الفقر . وإذا ما أضيف إلى هؤلاء قرابة مائتي ألف موظف ، باتوا منذ ما ينوف عن عام بدون رواتب ، فإن المشهد الإقتصادي الفلسطيني ، وما يتبعه ينذر بأحوال كارثية بعيدة المدى .
في الذكرى الأربعين لحزيران ، يعيش الفلسطينيون مرارة المتغيرات العربية التي حجمت القضية الفلسطينية . لقد انسحب الأشقاء العرب من ساحتها ، وتركوا الشعب الفلسطيني وحده قائما في مهب التحديات التي تكالبت كل القوى المعادية له على تكثيفها ، بغية النيل منه ، ومن ثوابت قضيته التي فقدت دون أدنى شك بعدها القومي . وليت الأمر يقف عند حدود صمت الأشقاء وتخليهم . لقد ساهمت الأنظمة العربية في تكريس حصار الفلسطينيين ، وانصاعت هي الأخرى للإملاءات الأميركية .
هكذا هو حزيران الأربعون ، يطل على الفلسطينيين بشجونه وأشجانه . يسافر بنا من النزوح إلى النزوح ، من الذكريات الأليمة إليها . لقد حط هذه المرة رحاله في الأراضي الفلسطينية ، يفرغ حقائبه المثقلات بالأسى واللوعة على ما آلت إليه الأحوال . ها هو يوقد شمعة عامه الواحد والأربعين ، وما زال يتسرطن في جسد الأمة العربية بعامة ، والشعب الفلسطيني بخاصة ، يقرع أجراس مخاطره التي لم تلامس مسامع العرب الغافين الساهين اللاهين .
كلمة أخيرة ، لقد مضت ستون عاما على نكبة الشعب الفلسطيني ، وأربعون على احتلال كامل ترابه . وعلى مدى هذه الأعوام العجاف التي حرمته نعمة الأمن والأمان والسلام في وطنه ، لم تفت الأيام في عضده . لم ييأس . لم يتخل عن ثوابت قضيته . لم يترجل عن صهوة نضالاته لاستعادة حقوقه المشروعة . لم تثنه التضحيات الجسام عن المضي قدما إلى صباح وطن ، لا تغيب عنه الحرية . إنها القضية الفلسطينية لا تموت ، وتبقى إرثا تتناقله الأجيال . إنه الشعب الفلسطينيي يهتف في الذكرى : ما ضاع حق خلفه مطالب . والشعب الفلسطيني هو المطالب . والقضية هي الحق .