في غمرة صمت العالم بعامة ، والعالم العربي بخاصة ، إزاء ما يعانيه الشعب الفلسطيني جراء ممارسات الإحتلال الإسرائيلي القمعية ، الذي دخل عامه الواحد والأربعين ، طلعت علينا منظمة العفو الدولية " أمنستي " بتقريرين عن الأوضاع المأساوية التي يعيش الفلسطينيون تحت ظلالها . التقرير الأول ، صدر في شهر أيار / مايو الفائت من هذا العام . والتقرير الثاني ، صدر في شهر حزيران / يونيو الحالي ، وتحديدا عشية الذكرى السنوية الأربعين للإحتلال الإسرائيلي لكامل التراب الفلسطيني . وقد تناول التقريران ، بشيء من التفصيل الأوضاع الكارثية التي يصطلي الفلسطينيون في جحيمها ، جراء هذا الإحتلال .
في تقريرها الأول ، أحصت أمنستي أعداد من قتلتهم قوات الإحتلال من الفلسطينيين الذين بلغوا في العام 2006 وحده ، ستمائة وخمسين " 650 " ، بينهم مائة وعشرون " 120 " طفلا . وتحدث التقرير عن حالة الفقر التي يعيشها الفلسطينيون جراء سياسات إسرائيلية منهجية في معاقبتهم . ومنها ، مثالا لا حصرا ، احتجاز المستحقات الجمركية العائدة لهم ، والتي تشكل أهم بنود دخلهم .
وجراء هذا الإحتجاز ، والحصار المفروض عليهم من قبل إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأميركية ، انقطعت رواتب موظفي السلطة العاملين والمتقاعدين . وبذا يمكن تخيل صورة الإقتصاد الفلسطيني الذي وصل إلى وتيرة من التدهور غير مسبوقة .
وقد خص التقرير الثاني لأمنستي الجدار الفاصل الذي تبنيه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المصادرة بالمساحة الكبرى منه . بداية ، نوهت أمنستي أن الهدف من بنائه ، يتمثل في عزل إسرائيل عن الأراضي الفلسطينية . وأن مخاوفها الأمنية لا تبرر الإنتهاكات الصارخة للقانون الدولي ، ولا تمنحها الحق لإساءة معاملة الفلسطينيين من خلال برنامج ضخم للعقاب الجماعي المنهجي .
ولم تقف أمنستي عند هذه الحدود ، بل إنها تناولت الجدار الفاصل بمزيد من إلقاء الضوء على الجوانب غير الإنسانية لبنائه . لقد شكل أوسع قاعدة لمنظومة السخط والمعاناة الفلسطينية . لقد بنت إسرائيل منه حتى الآن ثلاثمائة وخمسين كم " 350 " . وهي مستمرة في بنائه ، ليصل في النهاية إلى سبعمائة وعشرين كم " 720 " . ومع كل زيادة له في طوله ، تزداد المعاناة الفلسطينية بكل الإتجاهات طولا وعرضا وعمقا وارتفاعا . وأقل ما يقال فيه ، إنه سوف يطوق اثنتي عشرة قرية فلسطينية ، تضم ما ينوف عن واحد وثلاثين ألف مواطن ، " 31،000 " .
وتنهي أمنستي حديثها عن الجدار العازل ، مؤكدة على حقيقة ، مؤداها أنه قد شيد عمدا لمصادرة أراض فلسطينية ، وصلت مساحتها عشر مساحة الضفة . وفي هذا الصدد ، تصف أمنستي العملية برمتها بأنها اغتصاب تحت رعاية الدولة .
وإذا ما أضيف إلى هذا وذاك خمسمائة وخمسين حاجزا ثابتا ومتنقلا " 550 " ، لا يمكن وصفها إلا أنها حواجز الإذلال والتفتيش والموت والعقاب الجماعي ، وهي أصلا ، وجدت لصالح المستوطنات التي هي غير قانونية ، وأقيمت على أراض فلسطينية مغتصبة ، عندها يمكن تصور مشهد من مشاهد المعاناة الفلسطينية المتعددة .
وبالرغم من اتساع قاعدة هذين التقريرين ، وتطرقهما إلى جوانب عدة من المعاناة الفلسطينية ، إلا أنهما لم يصورا المشهد الكلي للمعاناة الفلسطينية . إن الأراضي الفلسطينية تتعرض لعمليات اجتياح مستدامة ليلا نهارا ، صباحا مساء ، وعلى مدار ساعات اليوم .
وأما المحصلة فهي المزيد من الإغتيالات والإعتقالات ، والهدم والتدمير ، واقتحام منازل المواطنين ، وبث الرعب في أوصالهم ، وإخراجهم إلى الخلاء لساعات وساعات ، دون أدنى اعتبار للظروف الجوية أيا كانت ، والعبث بممتلكاتهم وإتلافها . إن هذا وغيره الكثير ، لا يمكن إلا أن يندرج تحت بنود قائمة انتهاك أبسط الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني .
ومثالا لا حصرا ، سأتحدث عن نابلس ، باعتبارها مثالا صارخا على ما تتعرض له المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية الأخرى من ممارسات قمعية غير مسبوقة ، لا تقف عند أي حد من الحدود . لقد سقط العشرات تلو العشرات من شهدائها . واعتقل المئات من أبنائها وبناتها . وهدمت الجرافات الكثير الكثير من مبانيها ومعالمها التاريخية والأثرية . وفجرت أبواب ، لا عد لها ، من محالها التجارية . وحطمت المتفجرات ألواح زجاج لا تحصى من عماراتها . وناهيك عما يحدثه هذا وذاك من معاناة وآلام وأحزان لكل الفئات العمرية ، بدءا بالأطفال ، وانتهاء بالنساء وكبار السن من أبنائها .
إن الحديث يطول شرحه عن معاناة الشعب الفلسطيني جراء الممارسات الإحتلالية القهرية ، وهي تلك التي تصفها أمنستي بأنها لا إنسانية . إنه الإحتلال الذي لا تريد إسرائيل أن تعترف بما يسببه من إفرازات كارثية . إنها الولايات المتحدة الأميركية حليفة إسرائيل التي تشد على يدها ، وتؤازرها في كل مشروعاتها العدوانية ، وتمولها لها . وهو هو الإتحاد الأوروبي ذو المواقف المائعة ، يقف متفرجا هو الآخر ، إلا ما ندر .
إلا أن الأنكى من هذا وذاك كله صمت العالم العربي الذي تجاوز حدود المنطق والعقلانية . وإذا كان العالم الغربي والولايات المتحدة محكومين لاعتبارات ، تجعلهما يتصرفان على هذا النحو إزاء ما يجري في الأراضي الفلسطينية . فما هي يا ترى مبررات العالم العربي واعتباراته التي سمحت له أن يشارك في حصار الفلسطينيين ، ويضيق عليهم الخناق ؟ . إننا ونحن نسأل مثل هذا السؤال ، لا نجهل الإجابة عنه ، بل إننا نعرفها حق المعرفة .
لقد تخلى العالم العربي عن القضية الفلسطينية . ورحم الله لاءات قمة الخرطوم في العام 1967 التي نحرت الواحدة بعد الأخرى في مذبح الإعتراف بإسرائيل ، والتطبيع معها . إنه عالم خيار السلام العربي الإستراتيجي ، بالرغم من أنه سلام من طرف واحد ، لا تعترف به إسرائيل قلبا وقالبا ، وتشهر لاءاتها في وجهه . غير أنه يظل حجة واهية في أيدي الأنظمة العربية ، وحفنات من الرماد الذي يذر في العيون .
إنها مأساة الشعب الفلسطيني منذ ستين عاما ، أصبح يعانيها وحده . وحقيقة الأمر أن العالم له عيون ترى . وله آذان تسمع . وهو يدرك تمام الإدراك معاناة الفلسطينيين . وهو أكثر من ذلك ، يعلم يقينا أبسط الطرق لوضع حد لهذه المأساة الإنسانية غير المسبوقة في التاريخ الحديث . وهو يقرأ ، دون أدنى شك ، تقارير أمنستي كلها .
إلا أنه يقف صامتا ، لا يبدي حراكا ، ولا يريد جادا وحازما ، أن يطالب إسرائيل بإنهاء احتلالها ، وما أفرزه هذا الإحتلال على أرض الواقع الفلسطينية ، كونه مزدوج المعايير في رؤاه السياسية . وكونه قد أعطى ضميره إجازة طويلة الأمد .
وتظل القضية قضية الشعب الفلسطيني . إنها بكل ثوابتها أمانة ، لا يفرط بها تحت غائلة أي ظرف من الظروف ، مهما كانت قاهرة وعاتية . إنها إرث مقدس ، تتناقله الأجيال جيلا فجيلا ، مهما طال الزمن ، وبعد المشوار . إنها حقه المشروع . إنها وطنه التاريخي ، ورثه عن أجداده وآبائه . لم يغتصبه من أحد . وإن له الشرف والفخر ، أن يكون المكافح والمنافح عنها ، عن قدسها ، عن أقصاها المبارك ، عن صخرتها المشرفة ، عن عروبتها ، عن إسلامها .