بادىء ذي بدء ، نرفع الأيدي إلى السماء ، سائلين الله العلي القدير أن يحمي هذا الوطن من كل شر وسوء ، ومن كل مكروه وضرر ، ومن كل ما نخشى منه ونحذر . إننا نتوسل إليه ، وهو المجيب ، أن يحفظه واحدا موحدا . إننا نتمنى عليه ، جلت قدرته ، أن يمن على مواطنيه ، أينما كانوا ، مقيمين على أرضه ، أو في الشتات بالأمن والأمان ، والطمأنينة والسلام . إننا نرجوه ، وهو قابل الرجاء ، أن يؤلف بين قلوبهم ، وأن يرفع بين ظهرانيهم راية وحدة الصف والهدف . فلسطين ما كانت إلا أرضا واحدة ، إلا وطنا واحدا ، إلا قضية واحدة . جنوبها امتداد لشمالها ، وشمالها سند لجنوبها . لا يفرق بينهما بعد جغرافي ، ولا بون ديموغرافي . الإنتماء واحد ، الجرح واحد ، النكبة واحدة ، النضال واحد ، والتضحيات واحدة . إنها مشيئة الله جل جلاله أن يمتحن هذا الشعب في وطنه ، في نفسه ونفيسه ، ولا اعتراض على مشيئة الله . إن الإعتراض على تجزئة الوطن والقضية ، على احتراب بعض من أبنائه ، على ازدواجية النظرة إليه .
إنها أيام من تاريخ فلسطين عصيبة ، تضاف إلى أجندة أيام الوطن الجريح . لم تمض بضعة أسابيع على إحياء الشعب الفلسطيني للذكرى السنوية التاسعة والخمسين للنكبة التي دخلت عامها الستين . لم تمض إلا أيام معدودة على الذكرى السنوية الأربعين للإحتلال الإسرائيلي لكامل التراب الفلسطيني . وها هو الشعب الفلسطيني الدامي الجراحات ، المثقل بالأحزان والمآسي ، يصحو على محنة ، هي أخطر من كل المحن التي عاشها ، على مدار أيام نكبته .
وإذا كانت كل المحن والكوارث الإنسانية التي ابتلي بها الشعب الفلسطيني على مدار قرن من الزمن ، قد كانت وما تزال تداعيات لمؤامرة كبرى ، حاكت خيوطها الدول الإستعمارية الغاصبة ، فإننا نقول ، والأسى يعتصر قلوبنا ، إن هذه المحنة الراهنة هي من صنع أيد فلسطينية ، اختلفت رؤاها ، وتعددت اتجاهاتها ، وحادت عن المسار الأوحد والوحيد للقضية الفلسطينية . وهكذا كان الصدام الذي تعدى كل الخطوط الحمراء .
إنه مشهد فلسطيني حالك . الدم الفلسطيني لم تعد له حرمة . المواطن الفلسطيني لم يعد آمنا . تغتاله هذه المرة رصاصة فلسطينية . البيت الفلسطيني تهدمه على رؤوس أهله أيد فلسطينية . تحرقه نار فلسطينية . الغضب الفلسطيني أصبح أعمى أصم . لم يعد يرى ما تصنعه يداه ، ولم يعد يسمع أنين ضحاياه ، ولم يعد يفكر بأبعد من راهن طيشه وجنونه .
ها هي خارطة الوطن ، يلونها الدم والنار . تظللها غمامات التنائي والإفتراق .من كان يصدق أن تفرز أجندة أيامها أياما كهذه الأيام مجنحة بالمآسي والأحزان ؟ . من كان يصدق أن تطل شمس يوم الخامس عشر من حزيران / يونيو على الشعب الفلسطيني ؟ . هذا اليوم الذي شرخت فيه مرآة القضية الفلسطينية ، وحمل معه نذر الشجون والأشجان . إنها الحقيقة المرة . إلا أن الأمرّ منها أنها هذه المرة من صنع أيد فلسطينية ، لونت مشهد الوطن بالرؤى السوداء .
إننا ونحن نقرأ المشهد الفلسطيني الراهن ، لا نبغي تكرار ما سبق لكل الخيرين والمخلصين أن سألوه : من المستفيد الأوحد والوحيد من هذا السيناريو الفلسطينيي على مسرح القضية الفلسطينية ؟ . إن أبسط إنسان فلسطيني يعلم يقينا أنه الإحتلال الإسرائيلي . إن ما لم تستطع إسرائيل وكل أعداء الشعب الفلسطيني أن يحققوه طوال قرن من الزمان ، يخشى لا سمح الله أن يكون قد تم تقديمه مجاناعلى طبق من ذهب لهم .
إلا أننا ، وقد فتحنا هذا الملف ، لا بد لنا أن نؤكد على آثار سالبة ، يخشى أن تكون قد أفرزتها تداعيات الأمور في كل الأراضي الفلسلطينية شمالها وجنوبها ، ضفتها وقطاعها . وبداية ، يخشى أن تكون النظرة الواثقة للمواطنين الفلسطينيين إلى أنفسهم ، قد تضعضعت ، وأنهم لاسمح الله جراء ذلك سوف ينظر إليهم على أنهم لم يبلغوا سن الرشد السياسية .
وثانية منظومة هذه المخاوف التي أخذت تعصف بالفلسطينيين ، فإنه يخشى أن ينظر إليهم ، والأهم من هذا أن ينظروا هم لأنفسهم أنهم ليسوا أهلا لحكم أنفسهم ، وإدارة شؤونهم . فما إن " تحررت " مساحة من الوطن ، حتى انفجرت خلافاتهم الخطيرة ، فكيف فيما لو تحرر كامل الوطن ؟
وثالثة هذه المخاوف ، فإنه يخشى جراء ما حدث من اقتتال دام وانقسام خطير ، أن تكون الديموقراطية التي تغنى بها الشعب الفلسطيني ، ما هي إلا حالة عارضة ، أو سحابة صيف عابرة . وها هي أكبر فصائله تتنكر لها ، وتصر على تحكيم لغة الحديد والنار بدل لغة المنطق والحوار ، لغة احترام الرأي والرأي الآخر ، لغة التآخي والتواد والتراحم ، لغة الشراكة العادلة في تصريف شؤون الوطن ، لغة ثوابت القضية التي ليس لها إلا أبجدية واحدة وحيدة ، تتمثل في استعادة كل استحقاقاتها الشرعية .
ورابعة هذه المخاوف ، ومرة أخرى ، نرفع أيدينيا إلى السماء ، سائلين الله جلت قدرته ، أن لا تكون هذه الأحداث مقدمة لما هو أسوأ . وهل أسوأ من أن تنحر القضية في مذبح الصراع الفئوي على الإستئثار بالسلطة ، والإنفراد بها . وعلام هذا الإقتتال اللامبرر بين الأشقاء ؟ . علام هذا الصراع الدامي الذي لا هدف له إلا المحاصصة والإستئثار ؟ . إن الوطن محتل ، والقضية في الأسر.
لقد صمدت القضية الفلسطينية طيلة عقود طوال من الزمان رغم التحديات والصعاب والمحن ، والتضحيات الجسام بالنفس والنفيس ، كون المنظور كان واحدا . أما والحال هذه ، فإن القضية تمر في تجربة خطيرة غير مسبوقة ، تعصف بها الأهواء الشخصية ، والأنانية الفردية.
إلا أننا نحن الفلسطينيين ، وبرغم هذا النفق المظلم الذي لا يلوح بصيص نور في آخره ، لا نيأس ولا نقنط من رحمة الله . إن ثقتنا بالله لا يرقى لها أي شك . إننا نؤمن أن الدم الفلسطيني لن يستحيل إلى ماء . إن القضية إرث مقدس ، لا يمكن التفريط به . إنها خط أحمر ، لا يمكن أن يداس.
كلمة أخيرة ، هناك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها ، أو الإلتفاف عليها ، أو تجاهلها مؤداها أن أيا من الفصيلين الأكبر والأقوى في الساحة الفلسطينية – وهما جزء من الوطن وليسا كله – لا يمكن للواحد منهما أن يجتث الآخر ، أو أن ينكر وجوده ، أو أن يلغيه من أجندته . إنه الوجود الفلسطيني قائم على التعددية . إنها التعددية لا عنوان سواها . فهي الحصن الحصين للوطن . وهي مفتاح الدخول إلى الوفاق والإتفاق . وهي السور الفلسطيني العظيم لحماية القضية والحفاظ على ثوابتها . ولا بد من الرجوع اليها الآن الآن وليس غدا .
إن الذين صعدوا إلى أعلى أغصان الشجرة في لحظة من لحظات الغضب والمرارة ، لا بد وأنهم سوف ينزلون منها . لا بد وأنهم سيعودون إلى حضن القضية . فهم وإن كانوا خطين عقائديين متوازيين ، إلا أنهم فيما يخص القضية الفلسطينية المقدسة ، لا يمكن لهم إلا أن يتلاقوا ، ولا بد أن يعود الوئام والسلام ، ولا بد أن تعود قضية التحرر من الإحتلال هي الشغل الشاغل ، والوسيلة والهدف . وما دون ذلك هو الإنتحار والإندثار . وإن غدا لناظره قريب . والله يحميك يا وطني.