بداية ، أنوه إلى أنني استخدمت مصطلح قراءة في عنوان هذا المقال ، ولم استخدم عن قصد مصطلح إستقراء . هناك فرق كبير بين المصطلحين في كل المجالات . إن القراءة هنا لا تعني أكثر من الإطلاع على أمور جاهزة وتحليلها وتصنيفها ، وليس ثمة كبير عناء واجتهاد وافتراض في تفسير عناصرها ومركباتها . والسياسة الإسرائيلية لم تكن في يوم من الأيام تحتاج إلى توضيح أو تفسير أو طرح احتمالات أو تكهن لفهمها أوتفسيرها . وهذا ما يحتاجه الإستقراء . إن السياسة الإسرائيلية ، ما كانت على الدوام ، ولن تكون بمثل ما هي عليه من وضوح وبساطة هذه الأيام . إستراتيجيا ، فهي ثابتة ، لم تتغير مبادؤها ومركباتها وأهدافها واتجاهاتها الأساسية . أما على الصعيد التكتيكي ، والمقصود هنا الأمور الطارئة أو الجانبية أوالهامشية ، أو التي تقتضيها ظروف المرحلة التي تمر فيها ، فهي معدة سلفا لمساحة محدودة من التحرك .

لقد أثبتت التجارب الطويلة مع هذه السياسة ، وفي مرات عدة ، وظروف كثيرة وحالات مختلفة ومتشابهة ، صدقية ما نطرحه في حديثنا هذا . فعلى الصعيد الإستراتيجي ، ومرة أخرى ، هناك لاءات كبرى ، وصفت بالمحرمات ، تقوم عليها السياسة الإسرائيلية . لا لحق العودة . لا لإعادة القدس العربية . لا لحدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 . وهذه اللا الأخيرة ، تعني الإبقاء على الكتل الإستيطانية وكل مرافقها ، وكذلك  الجدار الفاصل . لا لدولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية برا وبحرا وجوا ، قائمة على التواصلين الجغرافي والديموغرافي .

ولا تنتهي منظومة هذه اللاءات عند هذه الحدود . ثمة لاءات أخرى . لا لتحرير أسرى فلسطينيين أو عرب تتهمهم إسرائيل بارتكاب أعمال قتل . لا لعملية سلمية تفرز سلاما حقيقيا قائما على العدل والإنصاف . إن أية عملية سلمية من منظور إسرائيلي ، لا ينبغي لها إلا أن يكون شكلها ومضمونها أمن إسرائيل أولا .

ولنأخذ مثالين تطبيقيين على هذه السياسة . المثال الأول يخص مبادرة السلام العربية التي انطلقت في قمة بيروت في شهر آذار / مارس من العام 2002 . لقد كان الرد الإسرائيلي المباشر والفوري عليها اجتياح الأراضي الفلسطينية واحتلالها ، وما زال هذا الإحتلال قائما حتى هذه الأيام . ويوم أعيد إحياء هذه المبادرة في قمة الرياض ، في شهر آذار / مارس 2007 ، كان الرد الإسرائيلي عليها رفضها ، ما لم يتم تعديلها ، بمعنى حذف ثوابت القضية الفلسطينية واستحقاقاتها الشرعية .

المثال الثاني يتمثل في ما قدمته السياسة الإسرائيلية على مائدة قمة شرم الشيخ الرباعية المنعقدة في الخامس والعشرين من شهر حزيران / يونيو 2007 ، والتي شاركت السلطة الفلسطينية فيها ، وكل من مصر والأردن وإسرائيل . وليس هناك ما يحتاج إلى التخمين والتفكير أو التوقع .
مما أعلن ، سوف يتقدم رئيس الحكومة الإسرائيلية " إيهود أولمرت " باقتراح إلى حكومته يتضمن تحرير مائتين وخمسين أسيرا فلسطينيا " 250 " من لون فصائلي واحد ، لم يرتكبوا أعمال قتل . وفي ذات السياق ، فقد علمتنا التجارب السابقة أن غالبية هؤلاء الأسرى الفلسطينيين ، إذا ما تم تحريرهم ، هم من الذين قد أوشكوا على إتمام مدد محكومياتهم في المعتقلات الإسرائيلية .

واستكمالا ، فقد وعدت إسرائيل أنها سوف تحرر نصف قيمة الضرائب المحجوزة لديها ، وهي أموال فلسطينية تقدر قيمتها بحوالي سبعمائة مليون دولار أميركي " 700 " ، لا منة لأحد في تحريرها . وإمعانا في التحكم والإستفراد ، فإن الحكومة الإسرائيلية سوف تحررها ، إذا ما تم تحريرها على دفعات ، تحت ظلال مراقبة عملية صرفها .

إن " سلة المكرمات الإسرائيلية " التي حملها رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى قمة شرم الشيخ الأخيرة ، لم تفاجىء أحدا منا ، كونها كانت خالية من موضوع الحواجز التي يتراوح تعدادها من الخمسمائة والسبعين  " 570 " إلى الستمائة حاجز " 600 " .

وكما كان متوقعا لكل ذي بصر وبصيرة ، فإن هذه السلة كانت خاوية أيضا من كل ما يمت إلى العملية السلمية بصلة ، وتحديدا مفاوضات الحل النهائي والدائم التي دأبت إسرائيل على التهرب منها ، وهي تسوق في هذا الصدد ما يحلو لها من مبررات وتعليلات ، منذ أن شعرت أن المفاوض العربي بعامة ، والفلسطيني بخاصة جاد وملتزم بخيار السلام .

إنها السياسة الإسرائيلية . هكذا خبرناها على الصعيدين الفلسطيني والعربي . وليس فيها جديد . وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح : أين المشكلة ، واين تكمن ؟ . أما الإجابة فإنها لا تحتاج إلى كبير عناء وتفكير . إن المشكلة هي السياسات العربية ، وتكمن في تفكير الأنظمة العربية ، وتحديدا في خيار السلام العربي الذي أثبت عدم جدواه وفاعليته حتى الآن .
 
ونحن هنا لا نقصد أن خيار السلام هو العلة . إن السلام الحقيقي مطلب استراتيجي للشعوب بعامة ، والشعوب العربية بخاصة ، وأولها الشعب الفلسطيني الذي عانى الأمرين طوال ما ينوف عن ستة عقود من الزمان ، حرم خلالها من نعمة السلام والأمن والأمان . إن العلة تكمن في خيار السلام العربي الذي طرح ، وليس له أية بدائل . إنه والحال هذه ليس إلا رهانا خاسرا . وعلاوة على ذلك ، لم يحظ بأية آليات تفعيل ، سواء داعمة أو ضاغطة على أرض الواقع .

لقد طرح هذا الخيار والأوضاع العربية مزرية . هناك الإنقسامات المستدامة في الرأي والرؤيا . هناك التقوقع القطري الضيق . هناك التناحر السياسي بين الأنظمة السياسية . إن هذه الأنظمة قد رضيت جراء واقعها هذا أن تخضع للإملاءات الأميركية . وهي فيما يخص النضالات الفلسطينية ، قد رضخت لمنظور الولايات المتحدة وإسرائيل لها على أنها ضرب من العنف والإرهاب ينبغي محاربته .

واستكمالا لهذا المشهد العربي ، والأخطر من هذا وذاك ، تلك الأحوال المدمرة التي تمر بها الأراضي الفلسطينية والتي تتعرض لأشرس ممارسات احتلالية قمعية ، والحرب الأهلية في الصومال ، وتلك الحرب العدوانية على العراق ، وتلك الأزمة السياسية الخانقة التي تعصف بلبنان ، وهذا الإستهداف الغربي للسودان .

وأما إسرائيل فهي متحدة فيما يخص منظورها السياسي تجاه القضية الفلسطينية ، برغم العواصف السياسية التي حاقت بها جراء إفرازات حرب لبنان في العام 2006 . واسرائيل لا تقف وحدها . إنها تحظى بدعم لا نظير له من حليفتها الإستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية ، والتي في أيديها مفاتيح الحل والربط .

كلمة أخيرة ، إن قمة شرم الشيخ الرباعية الأخيرة صفحة أخرى عابرة من كتاب القضية الفلسطينية . وهذا الكتاب متخم بمثل هذه الصفحات الرمادية . إن هذه الصفحة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن السياسة الإسرائيلية ثابتة لم تتغير ، كونها لم تصطدم بالتحديات العربية الحقيقية القادرة على تغييرها . وعلى المدى المنظور والأبعد منه لا يؤمل منها أي جديد على الإطلاق . وهي من الجهة الأخرى ، قد أثبتت أن السياسات العربية غير متوازنة ولا متكافئة مع هذه السياسة . وتظل الحال على ما هي عليه ، إلى أن يحين فرج الله . وإن غدا لناظره قريب .
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية