في حياة كل أمة لحظات استثنائية تواجه فيها تحديا ، عادة يستهدف وجودها أو مقومات وجودها الأساسية ، ومثل هذا التحدي يفرض عليها أن تشحذ كل قدراتها لمواجهته ، وهو ما يعني أن تتصرف بشكل استثنائي . ومنذ أن بدأ المشروع الصهيوني يتحول من فكرة إلى واقع والمنطقة العربية تعيش حالة استثنائية ممتدة تجاوز عمرها الآن نصف القرن . . وأهم ملامح هذه الحالة الاستثنائية حالة استنفار عامة تتفاوت درجاتها من مكان لأخر ومن مرحلة لأخرى من مراحل الصراع العربي الصهيوني ، وهي في عموميتها شملت السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع ، هذا فضلا عن استنفار عسكري جعل منطقتنا العربية من أكثر مناطق العالم شراء للسلاح على مدى العقود القليلة الماضية .
والاستنفار العسكري ألقى بظلال كثيفة على مناحي الحياة المختلفة ، فأدى أولا إلى صعود أسهم المؤسسات العسكرية في كثير من بلدان المنطقة العربية ، فشهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية في أقطار عديدة . كما أنه أدى إلى نقل أنماط التفكير و الفعل العسكرية ، من داخل الثكنات ومن على خط المواجهة ، إلى القسم الأكبر من مؤسساتنا حتى شغل رجالها القسم الأكبر من المناصب الرفيعة في المؤسسات التنفيذية على اختلاف أنواعها ، وهو ما أدى إلى تهميش مؤسسة القضاء وآليات تداول السلطة والرقابة عليها بدرجات متفاوتة . وتحت وطأة الإحساس بأن التحدي مازال قائما ، صارت الشعوب – عامة ومثقفين – تستبطن فكرة أن بقاء الحال على ما هو عليه ضرورة تفرضها حالة المواجهة . وصار كل حديث عن تغيير أو تقويم يصنف في خانة المحرمات الوطنية ، وربما فسر هذا كيف ألفت شعوب ببساطة تستلفت النظر أن تعيش عقودا متواصلة محكومة بحالة طوارئ وقوانين استثنائية ، دون أن تشعر أن هذه حالة استثنائية . وربما كان هذا نجاحا أحرزته الأنظمة العسكرية في أن تطبِّع الحالة الاستثنائية .
وما تؤكده المراحل السابقة من الصراع العربي الصهيوني ، أولا : أنه صراع ممتد وليس صراع معركة واحدة فاصلة ، ثانيا : أنه صراع مركب تلعب الاعتبارات الحضارية والدينية فيه دورا رئيسا ، وبالتالي فإن معيار قوة جبهة كل طرف ليس – فقط – قوته العسكرية بمعانيها المختلفة ، بل قدرته على الأداء الجماعي المتناغم المؤسس على أساس سياسة النفس الطويل . وقد خاضت الأمة جولات الصراع الفائتة دون أن تتوقف لتقيم مدى نجاح أسلوبها في المواجهة ، وبالتحديد أثر الأوضاع الاستثنائية ، التي صارت بطول بقائها أوضاعا طبيعية ، في كفاءتنا في الصراع . ولم تفلح نكسة يونيو في أن تدفع هذه الأنظمة إلى وضع هذه الاستراتيجية موضع التقييم بشكل جذري فكان بيان 30 مارس في مصر نتيجة متوقعة ، لكنها بكل المقاييس كانت دون المأمول ، وتم في سوريا تصحيح الأوضاع بإجراء عسكري كرس الوضع بدل أن يغيره .
ومن الآثار المهمة ، بل الخطيرة ،لهذا الامتداد الزماني للأوضاع الاستثنائية أن عودة بعض هذه النظم إلى إدارة شؤون بلادها بالقوانين الطبيعية صارت مهمة صعبة ، إذ أصبحت العسكرة سمة بنيوية فيها قد يستوجب الخروج منها تغييرات دراماتيكية . و المفارقة التي تستوجب التوقف أننا لم ننتبه إلى أننا نفعل بأنفسنا ومجتمعاتنا طواعية شيئا شبيها إلى حد بعيد بما يريد أن يفعله بنا المشروع الصهيوني . فبعد أن نحج الصهاينة في تخطي عقبة التأسيس يسعون إلى هدف " التطبيع " ، واقتناعنا بأن الكيان الصهيوني كيان شاذ غير طبيعي لم يلفت نظرنا إلى أننا ، منذ نشأ هذا الكيان ، " نطبِّع " أوضاعا سياسية هي بكل المقاييس شاذة غير طبيعية .
ونجاحنا في مواجهة مشروع تطبيع وضع الكيان الصهيوني مرهون بعودة إلى الأوضاع في بلادنا إلى حالتها الطبيعية ، فنحن قادرون على تنظيم حياتنا دون حكم عسكري على أساس وجود صراع حضاري ممتد يستهدفنا ، لكن لا يجوز أن ندفع ضريبة بقائنا نعيش حالة استثنائية ممتدة ، لأنها ، شئنا أم أبينا ، ستنتج ثقافتها وفلسفتها ومنظومتها القيمية . ونحن بهذا نعرض مجتمعاتنا – التي هي ثروتنا الحقيقية - لدرجات من التشويه و التدجين لا تقل مخاطرها عن انتصار المشروع الصهيوني انتصارا حاسما ، فهذه المنتجات ستكون قادرة على الفتك بمقومات وجودنا بشراسة تفوق قدرة الكيان الصهيوني .