منذ أن عرفت كمقولة ماركسية شهيرة لخصت عبارة " الدين أفيون الشعوب " موقفا من الدين إذ يستخدم لإلهاء الشعوب عن معاناتها ، ورغم أن المقولة تعكس عداء مبدئيا للدين أي دين ، فإنها تعد من ناحية أخرى نموذجا لمنطق التضليل عموما ، ومنها ألعاب التضليل التي تمارسها النخب السياسية والثقافية ضد شعوبها متحالفة مع قوى الاستبداد . وكل استبداد سياسي له " أفيونه " الذي يفضل استخدامه ويجيد ترويجه بين رعاياه ، ويبدو أن الوطنية أصبحت " أفيون " الاستبداد السياسي العربي الذي يحرص على أن تكون وطنية متشنجة تتحول إلى ما يشبه الجنون في مواجهة كل ما هو غربي . فإذا حضر الغربي على شاشة الرؤية حقيقة أو توهما تحضر مفردات الصراع وتفرض نفسها ، وعندئذ نصبح جميعا في معركة مصير الأكثر تشددا فيها والأعلى صراخا هو الأكثر وطنية !
وما نخسره بهذه الروح العصابية ليس فقط أفاقا ممكنة لعلاقة مع هذا الغرب أقل توترا وأكثر قدرة على إعادة التوازن ولو قليلا لموازين القوى المختلة . بل نخسر ما هو أهم ، عندما ترتفع صيحات الحرب وتدار المجتمعات بمنطق الثكنة العسكرية ، ويصبح كل خروج عن " الطابور العسكري " خيانة وعمالة ، ويوصف كل تفكير أخلاقي أو إنساني بأنه ترف يلهي الجنود عن المعركة الفاصلة . فالمعركة بدأت بالفعل والحسم الآن وهنا ، أما البناء الداخلي للمجتمعات بنفس طويل على نحو يجعلها تملك قدرة حقيقية على المواجهة دون صراخ فهو كلام في غير موضعه لأنه " أقل وطنية مما ينبغي " ، رغم أن موازين القوى في اللحظة الراهنة هي - في النهاية - حصيلة عقود ضائعة من عمر الأمة العربية صودرت فيها حرية الشعوب بدعاوى مشابهة ، فاستشرى الفساد وساد القهر والاستبداد وتكرس التخلف والضعف .
ولعل أكثر ما يثير الدهشة في هذا المنطق المغلوط أن تتبناه حركات إسلامية تعلم أن البناء والإعمار فرض شرعي في كل وقت ، كما يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في الحديث الصحيح : " إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها " ، فهل يعتبر الإسلاميون أن العدوان الغربي أكبر عليهم من يوم القيامة ؟ حتى يردد بعضهم هذا الخطاب ، وهل يعجز الإسلاميون حتى الآن الدرس من تجارب سابقة بعد أن دفعوا الضريبة الأكبر لغياب الحريات وسيادة القهر وخداع الشعوب بشعارات المواجهة مع الغرب لاتخاذها تكئة لممارسة القهر وحماية الفساد .
أننا عبر تجارب عديدة مريرة لم نستوعب أن مزيدا من الحرية واحترام آدمية المواطنين أول ضمانات انتماء الناس لأوطانهم واستعدادهم للتضحية بكل غال في معاركها . وأن الوطنية إذ تصبح مرادفا لتسويغ القهر أو حتى مبررا له تصبح أفيونا بكل معنى الكلمة . فاحترام القوانين والدساتير الوطنية ليست ثغرة لدخول الغزو الأجنبي ولا سبيلا لإهدار السيادة الوطنية ، والمطالبة بالالتزام بها لا يمكن أن يصبح " موسميا " يقبل في مواسم تحددها النخبة ويجرم في أخرى ، ولا يجوز أن يحكمه منطق انتقائي .
وها هو المشهد العراقي يلقي بظلاله على كثير من الدول العربية التي أصبحت تبدو كما لو كانت تخوف شعوبها من أن الهدف إبادة الأمة كلها أو على الأقل سلبها حريتها وأن الدور قادم عليها لا محالة ، ومن ثم تخيرها - ضمنا - بين الحفاظ على السيادة الوطنية والحفاظ على إنسانية الشعوب ، ويصوغ مثقفون بناء على هذا التخيير الضمني خطابا يصنف الناس بشكل حدي إلى " مع " و " ضد " بشكل لا يجوز معه أن تكون هناك رؤى أخرى لها طبيعة توفيقية أو حتى خلافية . وإذا كانت تلك ضريبة مقبولة في نظر الكثيرين للتصدي للآخر فإن هذا يعني أننا نحطم مستقبلنا بأيدينا لأجل معركة قد لا نكون ابتداء مضطرين لخوضها .
وما يبقى للمجتمعات العربية من حيوية وقدرة على الفعل بعد كل " معركة وطنية " يتضاءل ، وهذه المجتمعات هي رأس المال الحقيقي الذي يجب أن يصبح التفريط فيه من المحرمات ، ربما قبل الحفاظ على الأرض والثروات والأنظمة . فكل هذه المقومات على أهميتها الشديدة ملك للشعوب ينبغي أن تستخدم فقط لتوفير الحياة الكريمة لها ، أما التضحية بالشعوب بدم بارد على " مذبح الوطنية المقدس " - سواء كان ذلك بإلقائها في محرقة مغامرات عسكرية طائشة أو سلبها إنسانيتها بالقهر والاستبداد - فليس من الوطنية في شئ .