مما لاشك فيه أن تحرير أي أسير فلسطيني من المعتقلات الإسرائيلية ، يشكل ترجمة لواحد من أهم الثوابت الفلسطينية . صحيح أن عملية التحرير الأخيرة لم تكن بحجم طموحات الفلسطينيين ، إلا أنها أدخلت فرحة ما ، وإن كانت مبتورة إلى القلوب التي ما زالت يعتصرها ألم اعتقال أحبائها ، والذين تجاوزت أعدادهم الأحد عشر ألفا . وللفلسطينيين منظورهم فيما يخص أسراهم في المعتقلات الإسرائيلية . وهو منظور قانوني يتقاطع في كل نقاطه مع منظور الشعوب التي ناضلت من أجل التحرر والخلاص من الإحتلال ، وتعترف الشرعية الدولية به . وبناء عليه ، ناضل الفلسطينيون للخلاص والتحرير، ويناضلون أيضا من أجل خلاص فلذات أكبادهم وتحريرهم وعودتهم إلى ذويهم وأحبائهم وأحضان وطنهم ، وهذا حقهم المشروع .
إلا أن المنظور الإسرائيلي لا يتقاطع مع المنظور الفلسطيني في معظم نقاطه . إن إسرائيل عبر كل حكوماتها دون استثناء تعتبر الأسرى الفلسطينيين سجناء عاديين ، ارتكبوا جرائم ، وزادت على ذلك أنها أخذت تعتبرهم إرهابيين في غمرة ما يسمى الحرب على الإرهاب .
وانطلاقا من هذه التوصيفات ، فإنها تتخذ من قضية الأسرى وسيلة ضغط على الفلسطينيين ، وآلية تعذيب ومعاقبة لهم . ومن هنا فهي جادة بملء معتقلاتها بصورة مستدامة لم تنقطع في يوم من الأيام على مدار سنوات احتلالها لكامل الوطن الفلسطيني منذ العام 1967 ، وقوائم من تسميهم بالمطلوبين الفلسطينيين أمنيا لها طويلة ، ولا تنتهي .
وهنا لا بد لنا أن ننطلق من تعريف مصطلح الأسير كما هو في القوانين والأعراف الدولية هناك تعريف واحد للأسير ينطبق على كل من ألقي القبض عليه من قبل الخصوم والأعداء سواء كان ذلك في غمرة القتال ، أو الإستعداد له ، أو الإغارة عليه في عقر داره ، فهو عندئذ يكون أسير حرب . وفي العصر الحديث ، أقرت الشرعية الدولية عبر بنود " اتفاقية جنيف الرابعة " أسس معاملة الأسير وبقية الإجراءات التي ينبغي على الآسرين أن يطبقوها عليه بحذافيرها ، بما فيها حتمية منحه حق الحرية بالإفراج عنه ، والعودة إلى وطنه وأهله مهما طالت مدة أسره .
والأسير لا يحاكم ولا يحكم عليه بالسجن ، إلا إذا ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه ارتكب جرائم حرب ، أو جرائم ضد الإنسانية ، فساعتئذ تتولى أمره محاكم دولية خاصة بهذا النوع من المحاكمات وهي المخولة في البت في أمره . وعليه فإن الأسير لا يعامل معاملة السجناء العاديين ولا يحشر معهم في سجونهم .
وانطلاقا من هذه المقدمة القانونية المبسطة جدا نعرج على قضية أسرانا الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية . فمنذ العام 1948 هناك حرب دائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين عبر أساليب قتال مختلفة ومتنوعة . وجراء هذه الحرب وقع عدد كبير من القتلى والجرحى والأسرى من كلا الطرفين . وبطبيعة الحال فإن جل الأسرى كانوا من الفلسطينيين ، ذلك أن إسرائيل تمتلك من القوة والعتاد والعدة والتقنيات القتالية المتطورة ، ما مكنها أن يكون لها هذا العدد الكبير من الأسرى الفلسطينيين . وكانت هناك حالات محدودة ومعدودة لوقوع أسرى إسرائيليين في أيدي الفلسطينيين .
لقد دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948 حتى أيامنا الحالية على انتهاج سياسة ثابتة تجاه الأسرى الفلسطينيين ، تتمثل في عدم اعتبارهم أسرى حرب ، ومعاملتهم على أنهم " قتلة ، مخربون ، إرهابيون ، أو خارجون على القانون ، أو خطرون ، أو أعضاء في تنظيمات معادية " .
وهكذا فان كل من وقع في يدها ، أو ألقت القبض عليه زجته في غياهب سجونها بعد أن قدمته إلى محاكمها الأمنية ، وأصدرت عليه أحكاما تتراوح مددها ما بين شهور إلى سنين طوال ، وانتهاء بعشرات المؤبدات . وهناك في سجونها ومعتقلاتها فئة أخرى من الأسرى الفلسطينيين تطلق عليهم مسمى الموقوفين إداريا ، وهم لا يحاكمون وإنما يمكن تجديد مدد موقوفيتهم ، وهي في الغالب ستة أشهر قابلة للتجديد التلقائي .
وفي ذا ت السياق ، وعلى خلفية هذا المنظور الإسرائيلي في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين ، فإن ظروف اعتقالهم تظل إحدى القضايا الإنسانية اللافتة للنظر ، والأكثر تأثيرا في الشارع الفلسطيني . فهي لا تخضع لاتفاقيات جنيف بأي شكل من الأشكال . وبناء عليه فلم يعد وصف أحوال هؤلاء الأسرى اللاإنسانية ضربا من التخيل أو التخمين .
إن جل الأسرى يعيشون في معتقلات نائية محاطة بالأسلاك ، إحدى أهم سماتها الإكتظاظ الشديد وانقطاعها عن العالم الخارجي . وأما الظروف الحياتية فهي سيئة للغاية وتنعدم فيها أبسط الشروط الإنسانية ، علاوة على عوامل العزلة ، وانقطاع الإتصال بالأهل ، كون الزيارات تخضع هي الأخرى لمعايير خاصة فرضتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة . وهذا يفسر الإضرابات المتلاحقة عن الطعام التي يقوم بها الأسرى بين الفينة والأخرى احتجاجا على هذه الظروف اللاإنسانية .
إن موضوع الأسرى الفلسطينيين بالغ الأهمية ، وهو جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية التي يطالب كل فلسطيني ويصر أن يوجد لها حل شامل وعادل ، وهذا الحل لا يمكن أن يكتمل إلا بإغلاق ملف الأسرى الذي هو واحد من منظومة الثوابت الفلسطينية . والفلسطينيون صغيرهم قبل كبيرهم لا يتصورون سلاما يحل في المنطقة دون آخر أسير يتحرر من المعتقلات الإسرائيلية .
إن الفلسطينيين ينظرون إلى عملية تحرير الأسرى على أنها شمولية ، علاوة على أنها أمر طبيعي لا يقوم على أية استثناءات أيا كانت . وهي في العادة تتم بين كل الشعوب المتحاربة التي تجنح جنوحا حقيقيا للسلم فيما بينها . وهذه العملية ليست منحة أو مكرمة أو معروفا أو مجرد نوايا حسنة ، بل يفترض بها أنها عملية تأسيس لسلام متبادل دائم وعادل يجني ثماره طرفا النزاع دون تمنن طرف على آخر .
إن الأسرى الفلسطينيين الذين تجاوزت أعدادهم أحد عشر ألف أسير وهم خلف القضبان ، ومنهم من هو في العقد الثالث من عمر أسره يشكلون معاناة مريرة متجددة على مدار الساعة واليوم والشهر والعام لأسرهم وذويهم بخاصة ، وللشعب الفلسطيني بعامة جراء ظروف اعتقالهم التي أقل ما يقال فيها إنها لا تخضع لشروط اتفاقية جنيف الرابعة بشأن الأسرى .
لقد قيل الكثير عن معاناة هؤلاء الأسرى والظروف غير الإنسانية التي يرزحون تحت ظلالها القاتمة لكي تصبح المعاناة مزدوجة لكل من الأسرى من جهة وذويهم وشعبهم من جهة أخرى . إن هذه المعاناة لا تقف عند حدود قسوة الأحكام الجائرة الصادرة بحقهم أو مددها ، بل إنها تتعداها إلى كثير من المواصفات والشروط الإنسانية والصحية التي تفتقر لها هذه المعتقلات التي يحشرون فيها ، إضافة إلى الممارسات القاسية بحقهم على كافة الصعد ، ومثالا لا حصرا التحكم بزيارات أهاليهم لهم أو حرمانهم منها .
كلمة أخيرة ، إن الشعب الفلسطيني لا يتصور سلاما دائما يسود المنطقة ، في حين أن كوكبة كريمة عزيزة غالية من أبنائه وبناته – هم أبطال نضالات تحريره - تقبع داخل معتقلات الأسر الإسرائيلي . إن السلام إذا ما أريد له أن يسود ويدوم ، فلا بد أن يسبقه تعبيد طرق واصلة له . وإن إحدى هذه الطرق الهامة إغلاق ملف الأسرى الفلسطينيين .
وإذا ما أصرت السياسات الإسرائيلية على نهجها الحالي فيما يخص هذا الملف ، مضافا إليه الإمعان في مخططاتها الإستيطانية ومصادرة الأراضي الفلسطينية ، والسير قدما في بناء جدار الفصل ، وضرب عرض الحائط بكل الطروحات السلمية والقرارات الدولية المشروعة ، فان المشهد السياسي يظل قاتما بلا أفق ، وعندئذ فإن الحديث عن السلام يصبح ضربا من الوهم والخداع ، واللعب في الوقت الضائع . وسلام على كل أسير فلسطيني يرزح خلف قضبان الأسر ، ويحلم بالحرية ، وما ذلك على الله ببعيد .