يواصل الرئيس الفلسطيني لقاءاته مع قادة العدو الصهيوني ويمعن في رفض الحوار مع شركائه في الوطن ويكابر ويزايد إن كان ذلك بالتصريحات والخطب الرنانة أو بالمراسيم والقوانين غير الشرعية لمحاصرة قطاع غزة البائس. فلمصلحة من تصب هذه المزايدات والمماحكات؟ فهل حقا أن الإدارة الأمركية والكيان الصهيوني جادان في تقديم أي شيء للرئيس الفلسطيني؟ أم الغاية هي الإجهاز على القضية الفلسطينية وتصفتيها عبر تغذية الخلافات وما الرئيس الفلسطيني إلا أداة لتنفيذ ذلك؟ فماذا يييت بوش وأولمرت للفلسطينيين؟ يبدو أن إحهاز حماس على العصابات الفاسدة في قطاع غزة في حزيران كانت نقطة تحول للسياسة الخارجية لإدارة بوش فيما يتعلق بفلسطين والكيان الصهيوني وفتحت شهيتهما لمزيد من الخلافات والانقسامات بين الفلسطينيين. فجاء التحول ليكرس استمرار جهود واشنطن والكيان الصهيوني في خنق الديمقراطيه الفلسطينية ، وتوسيع الهوة بين حماس وفتح ، وضمان نجاح المشروع الصهيوني الذي يركز على سياسة الاستعمار وقضم وضم ما تبقى من الأراضي الفلسطينية.
وعندما اجتمع إيهود أولمرت بجورج دبليو بوش في البيت الأبيض في حزيران الماضي ، خلصا إلى أن طرد حماس لفتح من غزة قدم للعالم فرصة جديدة لم تحظ بها "عملية السلام" الفاشلة من قبل. لقد اتفقا على أن عزلة حماس فى غزة تقدم لهما الفرصة في احتضان الرئيس الفلسطيني عبر منحه امتيازات سخيه لعل وعسى أن تبني له مصداقية مع شعبه من أجل الغلبة على حماس.
لقد تحدث كل من بوش وأولمرت مطولا عن التزامهما بحل الدولتين ولكن في حقيقة الأمر كانت نيتهم دائما هي إسقاط حماس وليس إقامة الدولة الفلسطينية التي جددت دعمهم للرئيس الفلسطيني وهم يتوقعون أن هزيمة حماس هو مجرد وهم. وأن هؤلاء الفلسطينيين "المعتدلين" لن تكون لهم الغلبة على "المتطرفين لأن ما يعتبره أولمرت اعتدالا فلسطينيا هو قبول تقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية. وفي النهاية ما سيعرضه اولمرت وحكومته على الفلسطينيين سوف يرفضه عباس كما هو الحال مع حماس ، وعندئذ سيؤكد للفلسطينيين عقم اعتدال عباس وتبرير رفضها لحماس. وبالمثل أوهام بوش في توقعاته و ما سوف يتم من خلال المؤتمر الذي أعلنه مؤخرا وتم خفضه ليكون مجرد اجتماع في الخريف القادم. وفي رأيه ان جميع مبادرات السلام السابقة قد فشلت لأن الفلسطينيين ليسوا جاهزين لاقامة دولة خاصة بهم. ولذا سيركز الاجتماع بالتالي على التضييق على الفلسطينيين وبناء المؤسسات والاصلاح ، تحت وصايه توني بلير مبعوث الرباعيه المعين حديثا.
ويكفينا هنا أن نقرأ تحليلات بعض الصهاينة فيما ذهب إليه بوش والكيان الصهيوني إبان عقود طويلة. لقد علق (هنري سيغمان) في لندن ريفيو، الرئيس السابق لمؤتمر اليهود الأمريكيين عن حقيقة مبادرات السلام السابقة أنها لم نحرز اي تقدم لا بسبب افتقاد بوش والاتحاد الاوروبى للشجاعه السياسية، ولكن السبب هو ان القرار الذي اتخذ منذ إنشاء الكيان الصهيوني أنه لن يسمح أبدا بقيام دولة فلسطينية حقيقية مستقلة ذات سيادة وذات سيطرة اقتصادية. ولذا يصر الكيان على إنشاء عدد من المعازل للفلسطينيين يمكنهم تسميتها دولة وذلك من أجل منع قيام دولة ذات قوميتين تكون فيها الأغلبية للفلسطينيين.
إن ما يسمى بعملية السلام في الشرق الاوسط هي الأكثر خداعا في التاريخ الدبلوماسي الحديث. ومنذ فشل قمة كامب ديفيد عام 2000 ، وقبله بفترة طويلة ، كان هدف الكيان الصهيوني من "عملية السلام" – بجانب قبول المجتمع الدولي بالوضع الراهن - هو التغطية على مصادرة الاراضى الفلسطينية ، وديمومة الاحتلال ، ووفقا لرئيس أركان جيش الحرب السابق موشي يعلون ، إن الهدف هو 'الحفر عميقا في وعي الفلسطينيين بأنهم شعب مهزوم'. وبالرغم من احتضانه المتردد لاتفاقات أوسلو لم يقبل إسحق رابين بعودة الارض الفلسطينية خارج ما يسمى بخطة آلون التي تسمح لكيانه بالاحتفاظ بوادى الاردن واجزاء اخرى من الضفة الغربية.
وأي شخص على أقل درايه بما تقوم به الكيان الصهيوني من مصادرة الأراضي الفلسطينية دون هوادة على أساس الخطة الموضوعة ، ويشرف على تنفيذها أرييل شارون، وما إخلاء المستوطنات في غزة التي أشاد به المجتمع الدولى بسذاجة باعتباره الإنجاز البطولي من رجل ملتزم بسلام مشرف مع الفلسطينيين ، ما هو إلا الأول من سلسلة المعازل الفلسطينية . ويبين الوضع في غزة لنا ما ستبدو عليه هذه المعازل إذا لم يتصرف سكانها كما يريد الكيان الصهيوني.
إن التزام الكيان الصهيوني المخادع بعمليه السلام والحل القائم على دولتين هو بالضبط ما مكن من الاحتلال الدائم وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية. واللجنة الرباعيه تعاونت معها وقدمت غطاء لهذا الخداع بقبول ادعاء الكيان الصهيوني انها لم يجد شريكا فلسطينيا يستحق السلام.
ومن الأهميه بمكان أن تستمر هذه الحقيقة الساطعة في مقدمة أي مناقشة سياسية تتناول القضية: الأراضي الفلسطينية المحتلة لا تمثل سوى 22 في المائة من فلسطين التاريخية. يواصل الكيان الصهيوني حاليا السعي للحد من هذه المساحة بالإبقاء على احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية. وتبقى غزة الوحيدة ذات الصلة بهذه القضية بما تمثله من فرصة ذهبية لتقسيم الفلسطينيين أكثر وأكثر ، لارباك مشروعهم الوطني وتقديم صورة قاتمه عن "شعب جامح لا يمكن الوثوق به كشريك في السلام إلى الآن" قياسا بكيان صهوينى أكثر ديمقراطيه وحضارة.
وبإطالة أمد النزاع في غزة ، وبالتالي الانقسام الفلسطيني ، سيعطي الكيان الصهيوني الفرضة والوقت اللازمين لتدعيم المشروع الاستعماري ، ومواصلة السياسات والقرارات الإنفراديه تجاه القضايا التي ينبغي أن يتم التفاوض عليها مع الفلسطينيين.
علاوة على ذلك ، يجب ألا نغفل السياق الإقليمي. إن جماعة الضغط الصهيوني وحلفاءهم من المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية وفي وسائل الاعلام تواقون لمواجهة عسكرية مع إيران. وفي هذا السياق من الأهمية بمكان لهم إظهار حماس على أنها مرتبطة مباشرة مع إيران والمبالغة في ذلك ، وبالتالي نفهم دعوة بوش لمؤتمر دولي للسلام يهدف عزل حماس وللإمعان في إضعاف القوى الممانعة لمشروع الشرق الأوسط الجديد.
كما انه يفسر أيضا الدعم الكبير الذي تقدمه الأنظمه العربية لعباس ، وتحذيرات القادة والزعماء العرب من تصاعد الخطر الإيراني. فممن جهة ، إن القضاء على حماس يبعث برساله واضحة إلى الإسلاميين ؛ ومن جهة أخرى ، يبعث رسالة إلى إيران أن عليها التراجع والابتعاد عن الصراع الذي يعتبر منذ وقت طويل هو عربي – إسرائيلي فقط. ومن السخرية بمكان أن يضطلع بهذا الدور هم العرب ويقدم بعضهم على اتحاذ قرارات تاريخية مجانية للتطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل لا شيء.
ولضمان ذلك أيضا ، تقوم سلطة عباس بالتنسيق المباشر مع الكيان الصهيوني لتدمير حماس التي تمثل الغالبية العظمى من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ، وربما في الخارج. ولهذا تقدم له مساعدات مالية سخية كي يضمن ولاء أتباعه وتسليحهم لقمع خصومه السياسيين لفرض شرعيته وتقديم نفسه كرعيم أوحد, وكذلك عمدت حكومته في رام الله إلى سن قوانين جديدة لنزع الشرعية القانونية والعملية الديمقراطيه التي أسفرت عن فوز حماس في كانون الثاني 2006. وليس أدل على ذلك من اللحظة التي أعلن عباس فيها عدم دستورية حكومة الوحدة الوطنية وإقالتها رفعت العقوبات الخانقة على الضفة الغربية فقط. ولضمان عدم وصول المعونة والمساعدات لكل من لا يؤيده ، ألغت حكومة عباس في رام الله تراخيص جميع المنظمات غير الحكوميه العاملة في فلسطين وكذلك الجمعيات الخيرية والإسلامية كي يضمن عودة تلك المنظمات و الجمعيات الموالية للسلظة فقط.
وإلا ما معنى وصول الأسلحة بكثرة والبدء في التدريب العسكري على الرغم من حرمان الفلسطينيين من حقهم في الدفاع عن أنفسهم لعقود وعقود، وفجأة تتلقى السلطة الأسلحة والمساعدات العسكرية من كل اتجاه.
أما بالنسبة للشرعيه الدولية والإقليمية فقد قررت إدارة الرئيس جورج بوش تغيير سياستها بالإنخراط المباشر، بالدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الاوسط. الذي تحول فيما بعد إلى مجرد اجتماع عادي ، لانه لن يبحث أو يناقش ايا من القضايا الرئيسة التي تهم الفلسطينيين كقضايا اللاجئين والقدس والأسرى والمستوطنات وجدار الفصل العنصري ...إلخ. في الحقيقة أنه لم ولن يحدث أى تغيير فى السياسة الخارجية الامريكية فيما يتعلق بفلسطين. إن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وبعض الأنظمه العربية تنتهج نفس السياسة القديمة ، وما يحصل هو مجرد تعديل لفظي ليناسب سياق المرحلة الجديدة.
هم الآن -محافظو وليكيديو المقاطعة- في رام الله غارقون في العسل الأمريكي القاتل مقابل دورهم التدميري اللمشروع الوطني الفلسطيني. ولكنهم سوف يصحون على الحقيقة المرة، خلال فترة نأمل ألا تطول، هي أن الكيان الصهيوني مدعوما من اللوبي الصهيوني في واشنطن والإدارة الأمريكية لن يقدم لهم إلا "الفتات". وعندئذ إذا تجرأ عباس على رفض ما يعرض عليه أو أعاد التأكيد على الثوابت والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني فسيجد نفسه سجينا في قبو المقاطعة تماما مثل سلفه. وفي النهاية سيكون هو وزمرته الخاسرين في هذه المسيرة المخجلة.
ولذا من هذا المنطلق ندعو ونطلب كافة الأطراف الفلسطينية أن تعود إلى مرجعيتها الوحيدة ألا وهي الوحدة الوطنية التي لا تأتي إلا عبر احترام الشرعية والحوار.