إن الحادي عشر من إيلول / سبتمبر واحد من أخطر أحداث التاريخ المعاصر ، كونه حل بأقوى دولة وأغناها وأرقاها علما وتقنية على وجه الأرض في هذا الزمن ، وكون الولايات المتحدة الأميركية ، لا يمكن لها أن تتغاضى عنه ، وتمر عليه مرور الكرام . وكان من المؤكد أنها ستنتقم لكرامتها المجروحة . وهذا ماحدث ، وما زال يحدث ، جراء حربين خطيرتين أعلنتهما الولايات المتحدة وحلفاؤها على كل من أفغانستان والعراق ، في إطار مايسمى الحرب على الإرهاب ، وما زالت مساحة شاسعة من العالم تكتوي بنيرانها ، وبخاصة العالمين العربي والإسلامي .
وبداية فليس في وقوفنا نحن الفلسطينيين عند هذه الذكرى أية ذرة من ذرات التشفي أو الشماتة . فنحن الفلسطينيين لنا نكبتنا التي فرضها الآخرون علينا ، والذين ما زالوا على مدار ستة عقود يلحقون بنا الكارثة تلو الأخرى . ولعل أول ما علمتنا إياه نكبتنا دروس معمقة في الإنسانية ، جعلتنا نتعاطف مع كل الشعوب التي تحل بها الكوارث ، وأن لا نتمنى أن يحل بها ما حل بنا .
وفي ذات السياق وانطلاقا من حقيقة أن الشعب الأميركي يتعامل في شتى مرافق حياته مع الإحصائيات والأرقام والتشبيهات والأوصاف ، فإننا نقدم له مثالا لا حصرا ، وبصورة يفهمها أكثر من غيره ، بعضا من ملف النكبة الفلسطينية . إن حجم الركام والحطام والدمار الناجم عن كافة المرافق الفلسطينية التي دمرها الإحتلال تفوق مئات المرات نظيرتها الناجمة عن حطام برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك .
ولا نبالغ في القول إذا ما أكدنا أنه لو قيس ارتفاع هذه المرافق الفلسطينية المدمرة ، لتجاوز مئات المرات مجموع ارتفاع برجي نيويورك ، وشكل بالتالي مئات الأبراج . لكن الأخطر من ذلك كله أنه إذا ما أضيف إلى ما ذكرناه مئات الآلاف من القتلي والجرحى والمشردين والمنفيين من وطنهم ، علاوة على حقيقة الحقائق أن الشعب الفلسطيني أصبح بلا وطن ولا أمن ولا سلام ولا حرية ، تصبح الكارثة الفلسطينية هي كارثة العصر دون سواها .
إن الشعب الفلسطيني ، وهو يشاهد الكارثة الاميركية لا يبرر دوافعها بأية صورة كانت ، ولكنه كغيرة من الشعوب المقموعة المقهورة له الحق أن " يفسر " هذه الدوافع ، ذلك أنه أقدر من سواه على تفسيرها . فهو كان ولا يزال يصطلي نار جحيم إرهاب الإحتلال ، وفقدان الوطن والحرية والإستقلال والأمن والأمان .
وهنا ينبغي التفريق بين المشاعر الإنسانية التي أبداها ولا يزال يبديها الشعب الفلسطيني تجاه الشعب الأميركي كون هذه المشاعر غير قابلة للجدال أو اللغط أو التأويل مهما حاول المناورون والمصطادون بالمياه العكرة ، وبين مشاعر الصدمة والألم والغضب تجاه السياسات الأميركية المنحازة والتي لها أكثر من مكيال .
إن الفلسطينيين يشعرون أن صناع القرار السياسي الأميركي هم فريسة اللوبيات الإسرائيلية الضاغطة ، كونهم يميلون بزاوية انعطاف حادة جدا إلى الطرف الإسرائيلي في الصراع ، دون أدنى اعتبار لحقوق الفلسطينيين التي أقرتها الشرعية الدولية .
وفيما يخص الشعب الأميركي بالذات فلا تستطيع أية جهة أيا كانت ومهما حاولت أن تضع الشعب الفلسطيني في مصاف أعداء الشعب الأميركي . فسجل العلاقات الفلسطينية الأميركية على مستوى شعبي نظيف لا تشوبه أية شائبة . والأميركيون يتجولون بكل حرية بين الفلسطينيين ويلقون كل ترحاب . وليس هناك مرة واحدة اعتدى فيها فلسطيني على أميركي . وهذه حقيقة يعرفها كل أميركي تعامل مع الفلسطينيين .
إن أعداء الشعب الفلسطيني الحقيقيين أيا كانوا ، هم الذين يشوهون صور نضالاته المشروعة ويحجبون حقائقها عن بصيرة الشعب الأميركي وبصره . وها هم قد أنتهزوا هذا الحدث الأليم ، واختبأوا تحت مظلة ركامه وغباره ، ليسجلوا حلقة جديدة من نواياهم الشريرة على ثلاثة محاور . المحور الأول هدفه تحقيق مكاسب على حساب ما تبقى للفلسطينيين بهدف الإجهاض عليهم . و المحورالثاني هدفه تشويه سمعتهم وإلصاق صفة الإرهاب بهم وبنضالاتهم . والثالث هدفه اذكاء نار البغضاء والكراهية ضد العرب والمسلمين في أميركا والعالم .
إن الفلسطينيين - وقد حصل ما حصل – قد تكونت لديهم منذ زمن بعيد قناعات كغيرهم من الشعوب حتى تلك الأقرب الى الولايات المتحدة ثقافة وحضارة ، أن الولايات المتحدة الاميركية قد جنت في النهاية حصاد ما زرعته سياساتها على مدار عقود عديدة منذ نهايات الحرب العالمية الثانية وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين الحالي .
ولسنا هنا بصدد محاسبة الولايات المتحدة على مجمل سياساتها وتحكمها بالعالم وهيمنتها عليه باعتبارها القطب الأوحد . أن ما يهمنا هنا هو قضيتان أساسيتان . الأولى مطالبتها أن تعيد النظر في حساباتها مع القضية الفلسطينية المشروعة التي حاق بها وبأهلها ظلم تاريخي ، عساها تزيل الغشاوة عن بصيرتها وتدرك وهي تعاني مرارة ما عاناه الآخرون وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني .
والحقيقة الثانية تخص العلاقة مع شعب الولايات المتحدة . إن العالم العربي والفلسطينيون جزء لا يتجزأ منه ، كان ولا يزال مصلحة من أخطر المصالح الأميركية على كافة الصعد الإقتصادية والأمنية والسياسية والتسويقية والإستثمارية . إن المستفيد الأول والأخير هو الشعب الأميركي . ويبقى السؤال المطروح : ألا يستحق هذا العالم العربي وأهله أن يرد لهم الجميل في احترام قضاياهم ومساعدتهم على تحقيق أمانيهم المشروعة ، وفي مقدمتها استحقاقات القضية الفلسطينية التي أقرتها الشرعية الدولية عبر قراراتها العديدة ؟ .
لقد جربت الولايات المتحدة حتى الآن نمطا واحدا من سياسات الهيمنة والعولمة والتحكم بمصائر الشعوب ومقدراتها خدمة لمصالحها هي ، والمحصلة كانت هذه الحادثة التي تحيي هذه الأيام ذكراها الأليمة ، ومسلسلا لا ينتهي من الإنتقادات المريرة لسياسات الولايات المتحدة .
كلمة أخيرة ، إن الولايات المتحدة إذا كانت معنية حقا بالقضاء على الإرهاب ، فعليها أن تبحث في دوافعه ومسبباته ، وأن تقرأها جيدا . إنها دون أدنى شك كامنة في قهر الشعوب والتعالي عليها والكيل لها بمكيال خاص . وتشكل النكبة الفلسطينية مساحة واسعة منها .
إلا أنه ومما يؤسف له أن سياسات الولايات المتحدة الحالية ، ما زات سادرة في ممارساتها ، حاصدة المزيد من الخسائر والدمار لها ولغيرها ، ومتحدية كل الذين يؤكدون نهجها الخاطىْ ، وهم كثر سواء داخل الولايات المتحدة ، أو خارجها . وعسى أن تشكل هذه الذكرى الأليمة أساسا للتغيير الإيجابي الذي دون أدنى شك سيجلب الخير والرفاه والأمن والسلام لشعوب العالم وفي مقدمتها شعب الولايات المتحدة الأميريكة قبل غيره .