في حين تستعد المنطقة للقاء السلام الدولي الإقليمي المنتظر ، والمفترض انعقاده في بحر الخريف القادم ، وفي حين أن كثيرا من الانظمة العربية تحلم ان يناقش هذا اللقاء بنود المبادرة العربية للسلام الذي شكل الخيار العربي الوحيد منذ مطلع القرن الحادي والعشرين الحالي ، في حين هذا وذاك ، طلع علينا مؤخرا وزير الدفاع الإسرائيلي " إيهود باراك " ، قاطعا الشك باليقين ، واصفا " مساعي السلام مع الفلسطينيين بانها مجرد تخيلات ، وان إسرائيل لن تنسحب من الضفة خلال السنوات الخمس القادمة . وها هو إيهود أولمرت رئيس الحكومة الاسرائيلية ، يصرح ان اعلان مبادىء مشترك مع الفلسطينيين غير ملزم . وهذا يعني بما لا يدع مجالا للشك ان مؤتمر السلام لن يخرج عن كونه تظاهرة اعلامية ، وقعقعة لا تؤتي طحنا . وهو ايضا ما عبر عنه مسؤولون فلسطينيون بان الاسرائيليين يريدون سلاما في الفراغ ، في حين ان الفلسطينيين يريدون السلام على الارض .
وهذا بطبيعة الحال يدفعنا الى فتح ملف خيار السلام العربي ، واعادة قراءته في ضوء هذه التحديات المتصاعدة الوتيرة . ان الخطاب السياسي لكثير من الانظمة العربية ، وغداة انتهاء الحرب الاميركية على العراق وغزوه في العام 2003 ، أصبح مؤسسا على شعارات دأب القائمون على هذه الانظمة بكل ما يمكن ان يتوفر لهم من وسائل اعلام ومنابر محلية ودولية على ترديدها باعتبارها النهج والمنهاج السياسيين للمرحلتين الراهنة والقادمة .
ومن بين هذه الشعارات الاكثر تحديدا لمعالم المشهد السياسي العربي الداخلي والاقليمي والعالمي يبرز شعار " السلام كخيار استراتيجي " ، والذي جسدته المبادرة العربية للسلام .
وعلى ضوء هذا الشعار الذي تدل وقائع الامور انه لم يحظ بمسار مواز له في الطرف الاسرائيلي ، ولا بنصيب محدود من روح التبادلية التي يفترض ان تكون قائمة اساسا على نفس المفهوم والرؤيا والمنظور والممارسة ، فظل شعار السلام هذا معمولا به من طرف واحد ، هو بطبيعة الحال الطرف العربي الذي كرس على شرفه فعاليات حذف واضافة في مجمل السياسة العربية بعامة ، وبما يخص القضية الفلسطينية واسرائيل بخاصة .
ان الانظمة العربية لم تأل جهدا في تغيير قاموسها السياسي . فهناك الذين ترجموا هذا الشعار الى اعتراف تام بدولة اسرائيل وانهاء حالة الحرب معها في معاهدة سلام . وثمة آخرون اعترفوا بها واقاموا معها تمثيلا دبلوماسيا وجسور تطبيع على كثير من الصعد الاقتصادية والاعلامية وغيرها ، والالتفاف على كثير من المحرمات التي كانت لاءات الخرطوم الثلاث والمقاطعة بكل اشكالها وابعادها تمثلها .
وقد تكون الانظمة العربية وبالذات التي تبنت هذا الشعار قد اقتنعت به على صعيد مستوياتها السياسية العليا ، او انها ربما مورس عليها ضغوطات خارجية للسير في مساره بغض النظر عن كل ما يحف به من مخاطر ، او ما يمكن ان يلقى من معارضة جادة على مستوى شارع الجماهير العربية ، جراء افتقاره الى كثير من الأسس التي يفترض ان يقوم عليها . وهذه الانظمة قد لا تكون قادرة على الاجابة عن كثير من الاسئلة التي تتعلق بطبيعة هذا الخيار الذي الزمت نفسها به وتقوقعت في قمقمه .
وأول هذه التساؤلات حول ما اذا كان هذا الخيار يعني نبذ الخيار المضاد له والتخلي عنه نهائيا ، ام ان الخيارين متلازمان معا . الا ان مصطلح " استراتيجي " المرافق لهذا الخيار يفيد بناء على تفسير القاموس السياسي الدولي الديمومة والاستمرار والشمولية بكل ابعادها .
وفي هذا الصدد فالسلام من وجهة نظر هذا الخيار هو الطرح الوحيد والوضع النهائي مهما كانت الظروف والمتغيرات . وان استقراء ما آلت اليه الاوضاع السياسية في العالم العربي يبرز بوضوح – وبما لا يدع مجالا للشك – حدود مفهوم هذا الخيار ، ويؤكد عليه مهما كانت التحديات التي يتعرض لها هذا العالم العربي جماهيره ومقدراته بعامة وقضيته الفلسطينية بخاصة .
في ظل هذا الواقع الذي اختارته الانظمة العربية لا بد من اضاءة فضاءات تحيط بهذا الخيار حتى يكتمل المشهد من جميع جوانبه . ان إسرائيل وهي الطرف الآخر والموازي والتي يفترض ان يكون السلام معها عربيا قوميا شاملا بصفقة واحدة لا صفقات متناثرة متباعدة الازمان والتوقيت . وفي نفس الوقت ان يكون متوازنا ، ان إسرائيل هذه لم ترفع شعار السلام كخيار استراتيجي .
ان كل ما فعلته إسرائيل في هذا الصدد ، انها طرحت بالتشاور مع حليفتها الاستراتيجية الولايات المتحدة الامريكية ما يسمى " بالعملية السلمية " . وهي منظور سلام اسرائيلي اميركي قائم اساسا على محرمات ولاءات ومحظورات ، اثبتت الايام وتوالي الاطياف السياسية الاسرائيلية اليسارية واليمينية وسواها على الحكم ، انها ملتزمة بها ولا تحيد عنها قيد انملة . في الوقت نفسه وفي الطرف العربي الموازي أجبرت الانظمة العربية على التنازل عن محرماتها ولاءاتها ومحظوراتها على شرف هذا السلام .
وزيادة على ذلك فان تركيبة الطيف السياسي الحزبي الحاكم حاليا في اسرائيل ، شأنها شأن كل الاطياف السياسية السابقة ، لم يكن السلام الحقيقي أحد بنود أجندتها السياسية في يوم من الايام ، علاوة على انها ضعيفة ، وتعاني ما تعانيه جراء تداعيات الافرازات السلبية الخطيرة للحرب الثانية على لبنان في تموز / يوليو من العام 2006 . وان اقصى ما تسعى إله السياسة الإسرائيلية يتمثل في تهدئة طويلة الامد ، تتمكن من خلالها استكمال ما أحدثته من تغييرات جغرافية وديموغرافية في الضفة الفلسطينية بعامة ، والقدس بخاصة ، وفرضها بالتالي كامر واقع .
ثمة حقيقة اخرى لا ينبغي ان تغيب عن البال . فهناك الكثيرون في اسرائيل الذين يؤمنون ان العرب ما اقبلوا على السلام الا كونهم لم يستطيعوا ان ينتصروا في الحرب . بمعنى انهم مكرهون ليسوا ابطال سلام حقيقيين . وفي ضوء هذا المنظور الإسرائيلي للسلام الذي على ما يبدو نجح لدى بعض الانظمة العربية ووجد هوى فيها ، يصر الإسرائيليون على تعميمه على باقي الاقطار العربية بعامة والفلسطينيين بخاصة . وهو منظور قائم على انتقاص للحق العربي واستخفاف به وبمقدراته وبالمكانة التي يفترض ان يتبوأها ، وبادىء ذي بدء التفاف حاد على مجمل القضية الفلسطينية .
ولا تقف الامور عند هذا الحدود . فثمة حقيقة اخرى على جانب كبير من الاهمية تخص ميزان القوى العسكري في المنطقة . فاسرائيل لم تتخل عن الخيار العسكري بأي شكل من الاشكال . وهي لم تغير استراتيجيتها منذ قيامها والمتمثلة في تفوقها العسكري على كافة اقطار العالم العربي في آسيا وافريقيا مضافة اليها مجموعة من الاقطار الاسلامية الكبرى .
وحتى تحت ظلال العملية السلمية التي يفترض ان تقلص من ميزانيات التسلح والاستعدادات الحربية والتوجه الى المجهود السلمي ، فان اسرائيل ما زالت تدعم ثكنتها العسكرية الهجومية بوتيرة متسارعة متصاعدة باتجاهين افقي ورأسي .
وزيادة على ذلك فهي ترفض ان توقع على اية اتفاقيات دولية تحظر انتاج اسلحة الدمار الشامل او حتى اخضاعها للمراقبة الدولية . وما صفقة المساعدات الاميركية الاخيرة والمقدرة بثلاثين " 30 " مليار دولار ، والموعودة بها إسرائيل الا ترجمة فعلية للاصرار على جعل إسرائيل متفوقة على العالم العربي ، ودول أخرى خارج هذا العالم .
واخيرا لا آخرا ، لقد كان من المفترض ان تظل القضية الفلسطينية بكل ثوابتها وابعادها وتداعياتها هي المحرك الحقيقي للعملية السلمية المتوازنة العادلة الى الامام او الى الخلف من جانب الانظمة العربية . والساحة الفلسطينية تشهد منذ ما ينوف عن سبعة اشهر اعتى عملية تصفية من قبل اسرائيل التي تشن حربا بمعنى الكلمة ذات بعدين . الاول ضد القضية وشعبها . والثاني ضد الوطن العربي مستخفة ومستهينة به وهي تعلم ما للقدس والاقصى من مكانة وقداسة لديه .
كلمة اخيرة ، ان الانظمة العربية ، وهي مقبلة على لقاء السلام الدولي الاقليمي ، اذا ما كتب له ان يعقد ، مطالبة بسلام ضمن مواصفات ومقاييس تراعي مصلحة الامة العربية وكرامتها وتحفظ حقوقها . والسلام الجدير ان يسمى سلاما حقيقيا حينما يكون تبادليا وقائما على احترام رغبات الشعوب وطموحاتها نحو حياة افضل دون أي تفاوت في المردود على طرف دون الآخر . لكن منظور السلام الذي تؤمن به اسرائيل غير متكافىء ولا تبادلي .
وعلى ما يبدو انه مطروح ليكون من طرف واحد هو الطرف العربي . وحقيقة الامر التي لا تقبل ادنى جدال ان الارض واستحقاقات القضية الاخرى هي مهره من المنظور الفلسطيني والجماهيري العربي . وبدون هذا المهر لا يمكن ان يقوم هناك عرس للسلام .