في أكتوبر عام 1973 حشدت مصر مليون عسكري وأصلت إسرائيل  ب185 قذيفة مدفعية في الثانية كانت تنطلق من فوهات 11000 مدفع، وقامت سوريا بحشد أربعمائة ألف عسكري وألف خمسمائة دبابة في جبهة عرضها سبعين كيلومتراً، وقامت الدولتان ببناء حائط صواريخ دفاع جوي اعتبر الأكثر تطوراً وكثافة في وقتها وقد كلف بناؤه تحت القصف الجوي الإسرائيلي نهراً من الدماء والأموال. ثم ضحى آلاف الرجال بحياتهم في هجوم منسق عظيم وهم يرددون "الله أكبر باسم الله" . على أن كل لك لم يجد نفعاً، وإذا بإسرائيل تصبح على بعد 101 كم من القاهرة 35 كم من دمشق بعد احتلال إسرائي لستة عشرة قرية سورية جديدة. فلماذا؟ ولنعد إلى الوراء قليلاً: لقد صعقنا لهزيمتنا النكراء في عام 1967 وسقوط القدس وغزة والضفة الغربية وسيناء والجولان بيد إسرائيل، لكننا أبداً لم نسع لتشخيص أسباب الهزيمة. خلال الحرب ادعت مصر أن الطيران البريطاني والأمريكي شاركا في الحرب ضدها، وبعد الحرب قيل أن القادة الروس والأمريكان ضللوا القيادة السياسية المصرية. وقال جمال عبد الناصر أنه "مستعد لتحمل المسؤولية كاملة أمام الشعب" ولم يقل أبداً أنه مسؤول عن الهزيمة. وفي سوريا قالوا إن الحرب استهدفت نظامهم التقدمي الاشتراكي ولكن اليهود فشلوا في إسقاط النظام، وبالتالي فلا هزيمة. وتمت تسمية الهزيمة العسكرية "نكسة" هروباً من البحث المعمق في أسباب الهزيمة.

 وفي كلا الحالتين تمت محاكمات لبعض الضباط تم تحميلهم الذنب، وكانوا كبش فداء للنظام. ثم قام حافظ الأسد بانقلاب أطاح بالرئيس نور الدين الأتاسي وحكومة يوسف زعين وبعض كبار الضبط الذين كانوا في السلطة وقت الحرب. كما قام أنور السادات بحركة تطهير استغنى فيها عن معظم المسؤولين المصريين الكبار الذين استمروا في الحكم بعد 67 (شعراوي جمعة وعلي صبري ومحمد فوزي وجماعتهم). وقد تمت إصلاحات جيدة في كلا الجيشين من حيث الإعداد والتدريب والتسليح. على أن كل لك لم يكن سوى تحسينات لا ترقى إلى مستوى التغيير المطلوب للوصول إلى جيش قادر على الاستفادة من إمكاناته وتكبيد العدو خسائر فادحة وتحقيق النصر في النهاية. أي أن الخلل الموجود في الصميم بقي ولم يتطرق أحد إليه البتة.

عام 1806م فوجئ القيصر البروسي بهزيمة جيوشه أمام نابليون وباستقبال الألمان لجيش العدو بالأرز، وكان يعتقد أن لديه أفضل جيش في الدنيا، فقام بتشكيل لدراسة أسباب الفشل ووضع مقومات النجاح. كان يظن كما ظننا أن الأمر لا يتعدى زيادة القوة النارية للجيش وتحسين تدريبه وأنظمة تشكيلاته.

فشكل لجنة برئاسة اللواء شارنهورست لدراسة أسباب الهزيمة والتقدم بمقترحات تنهض بالجيش الألماني من كبوته. فإذا بلجنة شارنهورست تطلع عليه بما لم يخطر بباله حتى في أسوأ كوابيس نومه. فقد قالت له اللجنة أن الجيش يجب أن يكون "جيش الشعب" الخاضع لممثلي الشعب المنتخبين وليس جيشاً للقيصر. وألا يعقد الجيش ولاءه للقيصر فحسب بل عليه أن يكون مسؤولاً أمام السلطة الدستورية لممثلة للشعب. أي أن المصلحين طالبوا بالملكية الدستورية وهو ما نحتاجه اليوم فإما ملكية دستورية وإما نظام برلماني دستوري للرئيس فيه صلاحيات محدودة. (عباقرة الحرب- العقيد ت.ن. دوبوي- عباقرة الحرب- المؤسسة العربية للدراسات و النشر – بيروت – ط1 – 1983-ص43 وما بعدها)
وطالبوا أن يكون الانضباط أداة للسيطرة على القوات وليس أداة للقمع الإرهابي. وبناء عليه لقنوا الضباط والجنود الألمان متى يجب أن يخالفوا أوامر القيصر في الحرب! إذ أن هناك مناسبات يكون فيها على أمن الدولة على عاتق رجل واحد – جندي أو ضابط وعليه أن يتخذ قراراً مستقلاً مخالفاً لكل الأوامر حيث أنه الوحيد الذي يرى موقفاً لا مجال فيه للتردد.

وطالبوا أن تكون فرص الارتقاء إلى مراكز القيادة مكافأة  للجديرين الذين يثبتون تميزهم. لا أن تكون الترقيات أداة لإحكام سيطرة عشيرة الملك والمقربين منه على الجيش.

لكننا فضلنا إصلاحات القيصر ولم نشكل لجنة بصلاحيات واسعة وخيال كبير وثقافة عميقة وضمير مستقل ولا تخاف أن تجابه الصنم بما يكره.

يقول الفريق أول محمد فوزي في كتابه " حرب أكتوبر دراسة ودروس -  دار المستقبل العربي – ط2 – 1989 – ص 202:  "كان المشير عامر هو المسيطر وصاحب القرار النهائي في القوات المسلحة عام 1967 وهو نفس الموقف بالنسبة للرئيس السادات حيث كان المسيطر وصاحب القرار النهائي في القوات المسلحة عام 1973، مع وجود قائد عام للقوات، الأمر الذي كان له تأثير ضار على أسلوب القيادة والسيطرة كما في إدارة العمليات.
ويقول في صفحة 197: "من دراستي لمعارك أكتوبر عام 1973 وجدت أحداثاً كثيرة كان سببها الأساسي البيروقراطية وتأثيرها المباشر على سوء النتائج، وبتحليل مسببات هذه النتائج السيئة وجدتها تتجه دائماً إلى هذا الطابع المثبط للهمم، كما وجدت انتشارها في القوات المسلحة خلال حرب أكتوبر يرجع للعوامل التالية:
1- استحواذ الرئيس السادات منفرداً لسلطات القرار بالقوات المسلحة بوصفه قائداً أعلى وامتداد سيطرته ليكون قائداً عاماً للقوات.
2- سيطرة البيروقراطية القديمة على تصرفات القائد العام وقراراته حتى هبط التطبيق إلى مستوى مخالف للواعد الأساسية ولمبادئ الحرب وتطبيقاتها في الميدان، الأمر الذي أدى إلى إجهاض معنويات وحركة قواته في الميدان بل وعرضها في أحد المواقع للهلاك.
3- تردد القادة المرؤوسين للتصرف في الأمور الطارئة انتظاراً لتعليمات القيادة العامة بسبب تركيز السلطة فيها" ويقول في صفحة 200:
-" تسلط الرئيس السادات وتدخله في الشؤون الميدانية دون علم أو معرفة، الأمر الذي يحول المناقشة إلى قوة ضغط غير قابلة للنقاش أو المراجعة".وضرب على ذلك مثلا بزج اللواء المدرع 25 في أرض سبخية يسيطر العدو عليا تماماً وبعيداً عن حماية قواتنا الأرضية أو الدفاع الجوي، رغم معارضة رئيس الأركان وقائد الجيش الثالث وقائد اللواء 25  ومعظم هيئة القيادة".

ويضيف الفريق عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث في الصفحة 333 من مذكراته التي نشرتها مكتبة الشروق الدولية – القاهرة – 2002 ط1 : " لقد أوضحت أحداث الحروب مع إسرائيل أن تدخل القيادة السياسية في تسيير دفة العمليات في ميدان القتال كان له دائما! أثر سلبي على نتائج الحرب". ويضيف في صفحة 334: "ونحن هنا لا نغفل بأي حال حرية القيادة السياسية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية أثناء الحرب، لكنه من غير المفضل أن تتدخل تفصيلاً في قرارا القادة سواءً على مستوى القيادة العامة للقوات المسلحة أو في قرارات القادة في الميدان، فعلى القيادة أن تعطي المهمة السياسية التي ترغب أن تنفذها القوة العسكرية، وعلى القادة أن يضعوا القرار المناسب لتنفيذ هذه المهمة طبقاً لقواعد وأصول العلم العسكري، وبعد تقدير الموقف الشامل لميدان القتال.
واستكمالاً لها المبدأ ، يجب أن تكون القيادة السياسية على ثقة من حسن اختيارها للقيادة العسكرية بعيداً عن أي اعتبارات قد تدفع هذه القيادة العسكرية إلى نفاق القيادة العسكرية، أو تجنب مواجهتها، أو عدم إغضابها من خلال أما التهوين من الوضع العسكري الخطير، أو التنفيذ الحرفي لأوامرها دون إعمال العلم العسكري كما ينبغي".

ويضرب المؤرخ اللواء جمال حماد مثالاً على تسلط السادات وعدم قبوله لأي انتقاد بفصله لوزير الدفاع الفربق أول محمد أحمد صادق ونائبه الفريق عبد القادر حسن  واللواء علي عبد الخبير واللواء محمود فهمي قائد القوات البحرية لعدم ارتياح السادات للحوار الذي أجروه معه في اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 24 أكتوبر 1972. (  جمال جماد- المعارك الحربية على الجبهة المصرية- دار الشروق- ط1- 2002 – ص 42 إلى ص 47).


وما حدث في باقي الدول العربية صورة طبق الأصل مع اختلاف التفاصيل. حاكم محدود العلم والإمكانيات يفرض رأيه على كل أركان دولته في تخصصاتهم الدقيقة، والويل لمن يتململ أو يناقش. أفليس الحاكم هو الأحرص على استقلال البلد واستقرارها ورخائها؟  

وبهذه الطريقة التي تدار بها الأمور في بلادنا فلن نر النور أبداً.

وحسبنا الله ونعم الوكيل.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية