كان الفلسطينيون ومعهم أشقاؤهم العرب وأصدقاؤهم هم الوحيدين الذين تحدثوا عن دولة فلسطينية ، وطالبوا بها في أكثر من منبر ، وعلى مدار العقود الستة التي مرت على النكبة الفلسطينية . وتجسيدا لهذه المطالبة هناك لافتة دولة فلسطين التي تتخذ مكانها بين شقيقاتها اللافتات التي تحمل أسماء الدول العربية في قاعة اجتماعات جامعة الدول العربية . أما الفلسطينيون فلطالما رددوا مصطلح دولة فلسطين ، وكتبوه وطبعوه ونشروه وعلقوه وتداولوه فيما بينهم من قبيل التمني ، والإصرار على هذا الحق المشروع الذي لم يتنازلوا عنه ولن يتنازلوا . إلا أن الحديث عن الدولة الفلسطينية هذه الأيام ، يسمع من جهات كانت تتجاهله ، وترفضه وتتنكر له ، وتحديدا الولايات المتحدة الأميركية التي بشر رئيسها الحالي جورج بوش الإبن برؤيته حول الدولة الفلسطينية غداة أحداث الحادي عشر من إيلول / سبتمبر 2001 ، استعدادا للحرب على ما يسمى الإرهاب .

إلا أن هذه الرؤية قد كمنت في رحم الغيب السياسي ، ولم يكتب لها أن ترى النور طوال ستة أعوام . وها هي أعيد الحديث عنها كعنوان للقاء سلام دولي إقليمي ، يعقد في الخريف القادم ، إذا ما كتب له الإنعقاد ، دعت إليه الولايات المتحدة الأميركية لغاية ما في نفسها .

وما دامت الولايات المتحدة الأميركية تتحدث عن دولة فلسطينية ، فلا بد أن هذا الحديث ، قد تمت برمجته مع حليفتها الإستراتيجية إسرائيل التي أخذت هي الأخرى تتحدث عن هذه دولة فلسطينية . وهكذا الحال مع الإتحاد الأوروبي ، والرباعية الدولية على لسان موفدها الجديد السيد طوني بلير ، حتى وصل الأمر إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة السيد بان كي مون . وآخر مستجدات الحديث عن دولة فلسطينية ، جاءت من إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي نوه مؤخرا إلى أنه يرغب في تداول هذا الموضوع .

وهكذا فقد كثرت وتعددت الجهات التي تردد مصطلح دولة فلسطينية . وإذا كان الجميع قد اتفقوا على شكل المصطلح وهو دولة فلسطينية ، إلا أن الأهم والبدهي في الأمر أن المضامين مختلفة . ولنحصرها بين مضمونين . الأول وهو المضمون الفلسطيني العربي والثاني وهومضمون الآخرين ، وتحديدا الولايات المتحدة ومعها إسرائيل .

بداية أساسيات لا بد أن ننطلق منها في الحديث عن الدولة الفلسطينية . إن قيام دولة فلسطينية لا يشكل الحل النهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، وليس هو الحل النهائي . وثاني هذه الأسس إن الدولة الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من الحل ، وتشكل مساحة ما منه ، إلا أنها لا تشكل كل الحل . وثالث هذه الأسس ، إن هذه الدولة لا ينبغي لها إلا أن تبحث تحت ظلال بحث القضية الفلسطينية .

وإلى هنا فلا بد لنا أن نتساءل عن أية دولة فلسطينية نحن نتحدث ؟ . وللإجابة عن هذا السؤال ، فنحن جراء ما وصلت إليه أحوال العالم العربي من حالة انعدام الوزن السياسي والإقتصادي ، وجراء فقدان القضية الفلسطينية بعدها وعمقها القوميين ، فإن الدولة الفلسطينية من منظورنا – وهو الحد الأدنى – الذي يمكن أن يقبل به الفلسطينيون ، هي الدولة الحرة المستقلة ذات السيادة ، والتي لا تخرج عن أشكال دول العالم الأخرى ومضامينها .

إن الدولة الفلسطينية حتى تكون دولة بمعنى الكلمة ، ولكي تستوفي شروط المفهوم الجيوسياسي الديموغرافي الذي تقوم على أساسه الدول ، لا بد أن تكون قادرة على رسم خارطة سيادية لمساحة من الأرض الفلسطينية ليست أقل من حدود العام 1967 بما فيها القدس التي تتعدى كونها عاصمة سياسية للفلسطينيين إلى كونها جزءا رئيسا من التاريخ والعقيدة الإسلاميين اللذين يشترك فيهما أكثر من مليار مسلم .

وفي هذا السياق لا بد من تحديد إطار مرجعي لهذه الدولة ، وهو هنا الشرعية الدولية المتمثلة في قرارات مجلس الأمن الدولي "194 ،242 ،338" ، وكل القرارات الأخرى التي ظلت معلقة منذ صدورها وحتى اللحظة الراهنة . وما دام الحديث عن القرارات الدولية باعتبارها المرجعية الأساسية ، فإن حق الرعاية لمشروع إقامة الدولة يفترض إفراد مساحة معقولة لمشاركة الأمم المتحدة ورعايتها ، كون القضية الفلسطينية لها تاريخ طويل وعريق مع هذه المنظمة الدولية .

وانطلاقا من الشرعية التي يفترض أن تمثلها منظمة الأمم المتحدة ، فإن الدولة الفلسطينية إطار سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي للإنسان الفلسطيني سواء كان مقيما على أرض الوطن ، أو أنه كان في الشتات القسري . اذ ليس من المنطق والعدل أن ينقسم الفلسطينيون إلى فئتين ، فئة تحظى بوطن ودولة ، وفئة ثانية وهي الغالبية العظمى لا تحظى بهما ، وتظل تعيش غريبة على هوامش دول وشعوب أخرى وعالة عليها تحمل في جوارحها غصة الحرمان ، وتصلى جحيم النفي والشتات .

إن الدولة الفلسطينية العتيدة في المنظور الفلسطيني ، وليدة شرعية ومشروعة للقضية الفلسطينية ، يفترض أن لا يشوبها أي تشويه في شكلها أو مضمونها . وهي بكل بساطة لا يمكن أن تتعايش مع احتلال ولا استيطان له نصيب الأسد في ترابها وهوائها ومائها وباقي مقدراتها . وهذه الدولة لها حدودها ومعابرها وعاصمتها وهي القدس التي تحتضن أقدس المقدسات الإسلامية والتي كان الشعب الفلسطيني أمينا عليها طوال العصور .

 وهي دولة ذات تواصل جغرافي في كل الجهات وليس عبر ممرات ودهاليز أو جسور أو أنفاق . إنها دولة مستقلة ذات سيادة معترف بها من قبل جيرانها أيا كانوا ، إضافة إلى اعتراف الشرعية الدولية ممثلة بالأمم المتحدة . وهي قبل كل هذا وذاك حق مستحق ، لا منة من أحد ولا تكرم أو تفضل ، كائنا من كان .

واستكمالا ، إن الدولة من منظور فلسطيني جامعة ومانعة  . فهي جامعة بمعنى أنها ليست مجرد مسمى جغرافي أيا كان شكله ، وإنما دولة تتمتع بكل الأسس الحقيقية للدول . وأولاها السيادة على الأرض ما عليها وما تحتها وما فوقها ، وعلى سمائها ومعابرها . ولها عاصمتها وهي القدس الشريف . وهي متواصلة بكل أجزائها وأطرافها مهما بعدت عن بعضها .

وأما كونها مانعة ، بمعنى أن تركيبتها وأسس تشكيلها تحول دون الإنتقاص من سيادتها قيد أنملة ، أو وقوعها في مهب الإنتهاكات الإحتلالية التي اعتاد الفلسطينيون عليها إبان الإحتلال الذي يشترطون إنهاءه بكل إفرازاته وتداعياته . وأن تكون هناك آلية دولية ما تؤكد على حماية هذه الدولة من أي تهديد لأمنها وأمانها وسلامة مواطنيها .

إن الدولة الفلسطينية ليست مجرد إطار ينتظم جزءا من الشعب الفلسطيني والسلام . إنها الخلاص من الإحتلال وحكم الآخرين ، إنها صنع القرار الوطني ، إنها الأمن والأمان والحماية ، إنها الحق المشروع في ممارسة أسلوب الحياة الفلسطينية القائمة على توازن بين الموروث والمعاصرة .

كلمة أخيرة . إن الحديث عن الدولة الفلسطينية يظل ذا شجون وأشجان . ففي هذه الأيام يمر الوطن الفلسطيني بحالة غير مسبوقة من التشرذم والإنقسام ، يخشى الفلسطينيون معها ، لا سمح الله ، أن تكون مقدمة انفصال . وعندئذ فإن أي حديث عن دولة فلسطينية يصبح مبتورا ومنتقصا ، والوطن على ما هو عليه . والله نسأل أن تكون هذه المحنة سحابة عابرة ، ويعود الوطن واحدا موحدا ، لا تغيب عنه شمس الوحدة .
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية