عشية لقاء الخريف لبحث ما يفترض أنه السلام في الشرق الأوسط ، والمزمع عقده نهاية تشرين الثاني / نوفمبر الحالي في مدينة أنابولس الأميركية ، إذا ما كتب له أن يعقد ، أو على أقل تقدير أن لا يؤجل موعده ، دأبت الإدارة الأميركية على لسان أكثر من مسؤول أميركي مغازلة الشعب الفلسطيني ، وكان آخر هذا الغزل ما صرحت به كوندوليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية إبان زيارتها الأخيرة للمنطقة ، والكلام هنا للوزيرة الأميركية : حان الوقت لإقامة الدولة الفلسطينية . وحقيقة الأمر إن الحديث عن دولة فلسطينية يسعد الفلسطينيين ، ولكنهم يتساءلون : عن أية دولة يتحدث الأميركيون ؟ . هل هي دولة مستقلة ذات سيادة على برها وبحرها وجوها ومداخلها ومخارجها ؟ . هل هي دولة حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 بما فيها القدس العربية ؟ . هل هي دولة طاهرة مطهرة من الإستيطان بكافة أشكاله ، ومن إفرازات جدار الفصل العازل ؟ . هل هذه الدولة جزء لا يتجزأ من استحقاقات القضية الفلسطينية الأخرى ؟ .
أسئلة كثيرة تتبادر إلى أذهان الفلسطينيين ويطرحونها ، وهم يقينا يعرفون الإجابات عنها ، ويتشككون في هذه التصريحات الأميركية ، منوهين إلى أن رؤية الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن عن الدولة الفلسطينية التي بشر بها في العام 2001 ، قد مضى عليها حتى الآن ستة أعوام من الزمان ، وما زالت نطفة في رحم الغيب السياسي . وها هو الرئيس الأميركي يصرح مؤخرا فيما يخص الدولة الفلسطينية أن لقاء أنابولس سوف يبحث تصورا لشكل الدولة الفلسطينية .
وهكذا ، فإن شكل هذه الدولة لم يدخل مرحلة التصور بعد . وهذا يعني أن بحثها لا يتعدى مرحلة الإطار النظري ، وعلى ما يبدو فإنها ستبحث خارج إطار الأرض التي هي العنصر الأساسي المفترض لقيامها ، وكذلك بقية العناصر التي نوهنا إليها آنفا . وبرغم ذلك كله فإن الولايات المتحدة الأميركية تعتبر هذا إنجازا عظيما ، ومبررا لتتويج أعمال لقاء أنابولس .
وقد يكون هذا إنجازا عظيما للإدارة الأميركية التي تبحث عن مكاسب وانتصارات دولية لسياساتها المتعثرة ، تقدمها لمنتقديها الكثر ، وبخاصة داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها . إلا أنها إنجاز هزيل مبتور لا يسمن ولا يغني من جوع في نظر الفلسطينيين ، ولا يساوي هذا الحشد السياسي من الزيارات واللقاءات والإجتماعات الإقليمية والدولية . وهو لا يتناسب في حجمه وهذه الضجة الإعلامية الإقليمية والعالمية الحالية والمستقبلية على شرف هذا اللقاء الذي يصفه الكثيرون بالقعقعة الكبرى والنذر اليسير من الطحين .
لا أحد ينكر أن الدولة الفلسطينية كاملة السيادة والإستقلال برا وبحرا وجوا ، والطاهرة المطهرة من الإستيطان ، ذات العقد الذي واسطته القدس زهرة المدائن هي إحدى استحقاقات الشعب الفلسطيني . وهي قبل كل شيء جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية ، إلا أنها لا تشكل كل القضية الفلسطينية . ولا ينبغي لها أن تشكل مجمل أجندة لقاء أنابوليس ، في معزل عن استحقاقات القضية الفلسطينية الأساسية .
وما دمنا بصدد الدولة الفلسطينية ، فما تحدثنا عنه هو المنظور الفلسطيني لها . أما المنظوران الأميركي والإسرائيلي لها فهما مختلفان جدا ، ولا يتقاطعان في كثير من النقاط مع رؤية الشعب الفلسطيني لدولته العتيدة . إن أقل ما يقال في هذا الصدد أنهما لا ينطلقان صراحة من مبدأ إنهاء الإحتلال الإسرائيلي الذي يعني تفكيك الكتل الإستيطانية ، وإزالة جدار العزل ، والعودة إلى حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 ، ولا حتى الإشارة إلى تحرير الأسرى الفلسطينيين من المعتقلات الإسرائيلية . وهذا ما يفترض أن يشكل أساسيات أجندة هذا اللقاء الذي لم يتبلور أي بند من بنودها حتى الآن ، وقد أصبح اللقاء قاب قوسين أو هو أدنى .
إن الدولة التي يرغب الأميركيون والإسرائيليون في قيامها إلى جانب دولة إسرائيل هي مجرد كيان ما منزوع السلاح ، من أولى أولياته محاربة ما يسمى بالإرهاب الفلسطيني ، وهو بمعنى أدق وأشمل يستهدف كل أعمال المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد ممارسات الإحتلال الإسرائيلي .
إنها دولة يصفونها بأنها ديموقراطية ، وحتى الآن لا يعرف الشعب الفلسطيني ما هو المقصود بهذا الشكل من الديموقراطية المطلوب لدولتهم ، في حين أن المطالبين بهذه الديموقراطية لهم معايير مزدوجة ، ويكيلون بأكثر من مكيال فيما يخصها ، وهي تتناقض تناقضا كبيرا مع تعاملهم السياسي على أرض الواقع الفلسطيني . إنها ديموقراطية بلا أدنى شك مفصلة للحالة الفلسطينية .
وحقيقة الأمر ، هناك الكثير من المقدمات التي توحي بما لا يدع مجالا للشك أنها ستلقي بظلالها القاتمة على مجريات لقاء أنابوليس ونتائجه . وبداية ها هي وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي لفني تعلن صراحة أن أمن إسرائيل أولا ، وبعد ذلك الحديث عن دولة فلسطينية . وعلى ما يبدو أن تصريحها هذا جاء ردا على تصريح سابق للوزيرة الأميركية السيدة رايس التي أعلنت أنه حان الوقت لإقامة الدولة الفلسطينية . وهنا فإن المواطن الفلسطيني يسأل : من يصدق ؟ .
وانطلاقا فإن أمن إسرائيل من منظور الوزيرة الإسرائيلية ، هو ما يترجم على أرض الواقع والمتمثل بالمزيد من مصادرة الأراضي الفلسطينية التي يفترض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية . وليس الأمر تكهنا ولا اتهاما . فقد كشفت حركة السلام الآن الإسرائيلية مؤخرا عن بناء مئات الوحدات الإستيطانية قبل لقاء أنابوليس ، وأضافت في تقريرها أن ما يزيد عن 8% من الإسرائيليين يقيمون في المستوطنات .
واستكمالا فإن أمن إسرائيل أيضا لا يكتمل إلا في هذا الإطار المستدام من الإجتياحات للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية ، وما يصاحبها من أعمال اغتيالات واعتقالات وهدم وتدمير للممتلكات الفلسطينية . مضافا إلى كل هذا وذاك الحصارات والإغلاقات والأطواق الأمنية ، ومئات الحواجز التي تحيط بالتجمعات السكانية بكافة أشكالها ، وتجعل من حياة الفلسطينيين جحيما لا يطاق .
إن الأمر لا يقف عند هذه الحدود ، فعلى صعيد هامش المشاورات والإجتماعات واللقاءات التحضيرية التي تسبق انعقاد هذا اللقاء ، يلاحظ أن المسؤولين الفلسطينيين لا يترددون عن ترديد التصريحات العلنية التي مفادها أن هناك عقبات كأداء تعترض التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل ، الأمر الذي أدى إلى عدم التوصل إلى صياغة بيان مشترك حول أبسط الأمور .
كلمة أخيرة ، إن الطريق إلى أنابوليس غير معبدة التعبيد المفترض لهذا اللقاء . وعلى ما يبدو فإن الإختلافات في الرؤى الفلسطينية والإسرائيلية واسعة المساحة ، وليس من السهل الجسر ما بينها . وحقيقة الأمر إن الطرف الإسرائيلي لم يصل بعد إلى درجة كافية من النضج السياسي تؤهله إلى عقد سلام مشرف وعادل مع الفلسطينيين . وتظل عقدة الهيمنة والسيطرة
وفرض الرؤى هي منطلقاته الأساسية التي لا تجعله يترجل عن صهواتها للمشي في طريق السلام . وإن غدا لناظره قريب .