كان من المفترض أن تتوقف ، أو حتى أن تتجمد ولو لأيام منظومة الإنتهاكات الإحتلالية اليومية في أثناء انعقاد لقاء أنابوليس . إلا أن شيئا من هذا القبيل لم يحدث على أرض الواقع ، وظل المشهد الفلسطيني العام يرزح تحت وطأة الإجتياحات والإغتيالات والإعتقالات والحصارات والحواجز ، وكأن هذه التظاهرة السياسية في أنابوليس لا تخصه ولا تعنيه . وكان من المفترض أن يطلق سراح الأربعمائة والأربعين أسيرا فلسطينيا من المعتقلات الإسرائيلية . ومرة أخرى ظل قرار خروجهم إلى الحرية رهن المزاج والمماطلة ، وغير محكوم بتاريخ ولا يوم معين . وكان من المفترض أن " يجمد جزئيا " الإستيطان ، ومرة ثالثة ، وهي بكل تأكيد ليست الأخيرة لم يتجمد الإستيطان ، ولم يجد من هو معني بتجميده جزئيا ولا كليا ، أو أن يتخلى عنه إكراما للعملية السلمية .

وما دمنا في صدد الإستيطان ، فقد حذر تقرير جديد نشرته صحيفة " هآرتس " الإسرائيلية مؤخرا من أن الحكومة الإسرائيلية تتجاهل تعهداتها للرئيس الأميركي جورج بوش الإبن بشأن تجميد الإستيطان . وهذه الحكومة جادة في إضفاء صفة " مشروعية " لمواقع إستيطانية عشوائية ، فيما هي تواصل توسيع الإستيطان في كل الإتجاهات الرأسية والأفقية .
إضافة إلى ما ذكرنا آنفا ، فقد كشفت جريدة " هآرتس " الإسرائيلية النقاب عن نية الحركات اليمينية الإسرائيلية اللابرلمانية إقامة ثلاثة مواقع إستيطانية جديدة ، والتحضير للعودة إلى خمسة مواقع إستيطانية تم إخلاؤها في وقت سابق .

ولا تقف الإنتهاكات عند هذه الحدود ، فعلى الصعيد السياسي ، وبطلب من الحكومة الإسرائيلية ، سحبت الولايات المتحدة الأميركية مشروع قرار إلى مجلس الأمن ، كانت قد عرضته عليه ، يهدف إلى دعم مبادرة إعادة إطلاق مفاوضات مسيرة السلام في الشرق الأوسط التي أعلن عنها الرئيس الأميركي في لقاء أنابوليس . وكان من المفترض ، فيما لو تم تمرير هذا القرار ، أن يتولى مجلس الأمن دعم برنامج عمل للمفاوضات ، وتنفيذ الإلتزامات التي تضمنتها خارطة الطريق .

وحقيقة الأمر أن النوايا الفلسطينية جادة في سعيها للسلام ، وايجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية ، ضمن ما يصرح به المسؤولون الفلسطينيون على الدوام من إلتزام بالثوابت الوطنية . وسواء رضي الراضون عن أنابوليس ، أو غضب الرافضون له عليه ، فإن الموضوع لا يتعلق بالنوايا الفلسطينية ، بل هو يخص تحديدا النوايا الإسرائيلية التي سجلت إنتهاكا خطيرا بطلبها سحب مشروع القرار الأميركي .

ولا عجب في ذلك ، فقد دأبت حكومات إسرائيل على اختلاف ألوان أطيافها السياسية على رفض أي دور للأمم المتحدة فيما يخص القضية الفلسطينية ، كي لا تقع في دائرة أية ضغوطات دولية ، وبغية الانفراد بالفلسطينيين . إن ما تريده إسرائيل هو التفاوض الثنائي مع الفلسطينيين الذين تعتقد أنهم أضعف منها عسكريا وسياسيا ، بغية أن تفرض منظورها لأية تسوية معهم .

واستكمالا ، ففي إطار هذا المنظور الإسرائيلي الذي تجسد في سحب مشروع القرار الأمريكي الذي أشرنا إليه ، فإن إسرائيل تأمل أن تتفاوض مع الفلسطينيين دون أدنى إلتزامات أو جداول زمنية وهي بهذا تحوز على مساحة شاسعة من الإشتراطات التعجيزية والحجج ، والمماطلة ، والإعاقة ، والتأجيل والتأخير كما يروق لها ، وضمن مخططاتها هي ، وكونها على يقين من أن الولايات المتحدة الأميركية حليفتها الإستراتيجية لن تفرض أية حلول ، وهي بهذا تدعم المنظور الإسرائيلي للتسوية .

إن هذه المقدمات ، وغيرها الكثير تلقي بظلالها القاتمة على أية مفاوضات سوف يخوض الفلسطينيون غمارها دون أن تكون لها ضمانات إسرائيلية أو أميركية . وقد خاض الفلسطينيون طوال أربعة عشر عاما من التفاوض مع الإسرائيليين ، منذ أوسلو ، فكان حصادهم بقاء الإحتلال وتوسيع الإستيطان ، وتهويد القدس ، وهذا الجدار العازل ، والإجتياحات المدمرة التي أصبحت على مدار الساعة واليوم .

في اعتقادنا ، إن الصورة العامة لمستقبل المفوضات قاتمة ، إذا ما أضفنا إلى كل هذا وذاك ما صرح ويصرح به الإسرائيليون علانية من أنهم وبدعم الولايات المتحدة لن ينسحبوا إلى حدود العام 1967 ، وهذا يعني احتفاظهم بالكتل الإستيطانية الكبرى ، وبكل إفرازات جدار الفصل العنصري ، وأخيرا لا آخرا رفضهم حق العودة ، وقد دعموا هذا الرفض بإعلانهم يهودية دولة إسرائيل .

والسؤال الذي يطرح نفسه : ماذا تبقى للتسوية النهائية ، وماذا تبقى للدولة الفلسطينية التي بشر بها الرئيس الأميركي قبل ستة أعوام ، وما زالت نطفة في رحم الغيب السياسي ؟ ماذا تبقى للشعب الفلسطيني من قضيته وها هي قد بلغت من عمرها المأساوي الكارثي ستين عاما ؟ .

إن الفلسطينيين جادون في إيجاد تسوية عادلة لقضيتهم في إطار ثوابتهم الوطنية . وهم مستعدون لها وصادقون في نواياهم . أما نوايا الطرف الإسرائيلي ، فكيف يمكن أن تفسر وسط هذه الإنتهاكات الصارخة ، إلا أنها لا تنطلق من رغبة صادقة في إقامة سلام دائم عادل ومشرف مع الفلسطينيين .

كلمة أخيرة ، إن الشعب الفلسطيني ، وقد قبل بالعملية السلمية برغم كل مراراتها وتضحياته وتنازلاته من أجل تسوية عادلة ، ما زال يؤمن يؤمن بحقه في ترجمة ثوابته الوطنية كاملة غير منقوصة . وهي ثوابت لا يتجنى فيها على أحد كائنا من كان . لقد كفلتها له الشرعية الدولية عبر قراراتها التي يسعى الطرف الإسرائيلي إلى الإلتفاف عليها. إلا أن الشعب الفلسطيني من الذكاء والقدرة على التحمل ، والإصرار على المزيد من التضحيات والصبر . وإن غدا لناظره قريب .


شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية