ما يجري اليوم على صفحات الجرائد من ملاسنة بين مناضلي جبهة التحرير الوطني والتطاول غير الحضاري على بعضهم البعض ، هو بمثابة العجوز التي قيل عنها أنها أمسكت بالسارق فظلت تذكر ذلك لكل من تلقاه في الطريق قريبا كان أم بعيدا عدوا أم صديقا.. وهذه العجوز كما تقول الحكاية لأول مرة في حياتها تقوم بهذا العمل البطولي.. والمنتمين لجبهة التحرير الوطني حكايتهم تشبه نوعا ما حكاية تلك العجوز.لأن وجود الحزب كقوة سياسية في كل أطوار المجالس بعد غياب حقبة من الزمن من الانتخاب التعددي سولت لهم أنفسهم على أن الحاكمية المطلقة أصبحت في قبضة اليد وأن التاريخ قد أعاد نفسه ليحكي لنا قصة اسمها الحزب الواحد.و على الجميع الانخراط في المسعى الجديد والتسليم بما هو واقع.ولكن تناسى هؤلاء كما تناست السلطة بأن الواقع السياسي ما عاد يقبل الترهات والخزعبلات أو يهضم سيناريو التناطح من أجل تبرير ديمومة الوضع على ما عليه .فالشاب الذي يحمل شهادة جامعية وفي بيته هوائي مقعر يستحيل أن يصدق ما يجري لجبهة التحرير الوطني على أنه صراع من أجل الديمقراطية ..لأن الديمقراطية للأسف الشديد داخل الحزب نفسه لم تحترم.. والتدليل على ذلك ما يقوله الاخوة الفرقاء في بعضهم البعض.. والتشكيك في إفرازات المؤتمر الثامن لحزب جبهة التحرير الوطني.. ولو علم الإخوة في جبهة التحرير الوطني أن ما يحاك ضدهم من المشائين بنميم هو الحالقة للحزب ولمستقبلهم السياسي ولتاريخ الحزب على حد سواء.فالحزب على تاريخه الطويل وفضله على الشعب الجزائري يبقى بعيدا عن تطلعات الأمة الجزائرية التي ملت المنازعات غير المجدية التي تدفع سوى إلى التجرد من المسؤولية قبالة الأزمة المتعددة الأوجه.هذه الأزمة التي تحتاج إلى حزب إطفاء لا إلى حزب تناحر .. وكيف تقنع المواطن البسيط الذي لا يحسن التحليل ويصدق ما يقال له على صفحات الجرائد أن جبهة التحرير الوطني يراد اقتناصها من أيدي الذي لا يؤمنون بالديمقراطية وهو يرى أزماته تتفاقم يوما بعد يوم من نفس الوجوه التي حكمت البلاد منذ 62 .. كما لايمكن أن يصدق هذا المواطن أن جبهة التحرير هي الخيار الحزبي و الإنتخابي الوحيد الذي يجب أن يذعن إليه.. فالتصور على أن حتمية أن جبهة التحرير الوطني هي القوة الوحيدة التي لها الكفاية السياسية من أجل إنقاذ البلاد بحكم ما ينضوي تحت لوائها من أشياخ مارسوا الواحدية الحزبية حتى النخاع وتمرغوا في زبدة السلطة حتى التخمة هو خطأ استراتيجي سيقضي على الحزب من زاوية أن من يسيرونه اليوم ببوصلة متوقفة قد تجاوزه الزمن ولو أنه يبدو في عزة وقوة .لأن الحزب الذي يرفض أن يتحرر من عقدة الأبوة لا مكانة له في المستقبل.
عندما قال الدكتور عباسي مدني للأستاذ عبد الحميد مهري بأن جبهة التحرير الوطني كحزب سياسي لم يعد له وجود بعد 1962 .. كما أن نفس الحزب لم يحكم أبدا بل حكموا باسمه..انتفض الأستاذ عبد الحميد مهري ليذود عن حزب جبهة التحرير الوطني بصفته أمين عام للحزب، وليكذب الدكتور عباسي مدني في كل ما قاله لكن استقالة الشاذلي بن جديد في 11 جانفي 1992 برهنت على صدقية عباسي مدني حول حقيقة حاكمية الحزب في القرارات المصيرية للبلاد. وظهر فيما بعد أن جبهة التحرير وجبهة الإنقاذ صنوان وأن الحكم برمته بيد من هم خارج الحزب.. فالبرلمان حُل بغير علم رئيسه عبد العزيز بلخادم الذي كان ينتمي لحزب جبهة التحرير الوطني..ومهري نفسه أصبحت الشكوك تحوم حوله على أنه مقرب من جبهة الإنقاذ ومن تم يجب إبعاده بأي شكل من الأشكال.فوضع جبهة التحرير الوطني ساعتئذ كان حرجا أمام الأنصار أو حتى أمام من كان يقول بأن جبهة التحربر الوطني تحكم ولا يتحكم فيها أحد.. وقد زادها ذبحا على ما هي عليه الرئيس الراحل محمد بوضياف- الذي قتل في عنابة -فور نزوله من الطائرة بمطار هواري بومدين إذ صرح بأن جبهة التحرير انتهت وانتهى دورها في 1962 .. وقد كان محمد بوضياف عارفا لما يقول خصوصا وأنه سعى قبل ان تطاله المنية لتأسيس حزب سياسي يجمع كل الأقطاب الديمقراطية التي تكفر بجبهة التحرير الوطني وتحارب الجبهة الإسلامية لللإنقاذ.. ورئيس هذا الحزب كان مرشحه سعيد سعدي رئيس التجمع الثقافي الديمقراطي.و رغم اغتيال محمد بوضياف وشغور الساحة السياسية من قوة حزبية تعيد للواقع الجزائري حيويته قبل اغتيال الديمقراطية بنفس الطريقة التي اغتيل بها محمد بوضياف ظلت جبهة التحرير الوطني تمثل شيئا كبيرا عندما حرص عبد الحميد مهري على تنقيتها من غرورها وكبريائها بمدها حقنة معارضاتية .. بحيث ساهم في ترسيخ الثقافة الديمقراطية للحزب ومناضليه الأوفياء ببحثه الحثيث عن مخرج لأزمة الشرعية التي ألمت بالبلاد وباعترافه بالهزيمة التي منيت بها جبهة التحرير بحصولها على 15 مقعد مقابل 188 مقعد لجبهة الإنقاذ و25 مقعد لجبهة القوى الإشتراكية بزعامة آيت أحمد.. ومساهمة عبد الحميد مهري إلى جانب كل القوى الفعلية في البلاد في توصيل أوجاع الجزائر للعالم .. أعطى لجبهة التحرير الوطني احتراما لم يكن موجودا من قبل وهذا من طرف الجميع .. كما زاد في قوة جبهة التحرير الوطني استقطاب مناضلين جدد لتدعيم الخط الجديد والنظرة المتفتحة. إن جبهة التحرير لو حقا بامكاننا أن نمنحها حق الوصي الأول على الحكم في الجزائر لكان ذلك عندما كان عبد الحميد مهري يقود الحزب ويداويه بالعقلانية والإعتراف بما هو كائن دون كذب أو افتراء أو تملق.. لكن يجب اإعتراف أن جبهة التحرير الوطني ما كانت أبدا في الحكم وما استطاعت أن تمنح البلاد الإستقلال المنشود.. لأن الوجوه التي ألفها الشعب يوم كان شعار أن الإشتراكية قرار لا رجعة فيها وأن مبادىء الثورة مصانة وأن الديمقراطية لا يزال وقتها لأن الشعب لم ينضج بعد.. نفسها الوجوه التي تتمجد بالديمقراطية وتتكلم عن ضرورة العصرنة والنهوض بالجزائر اليوم..ونفسها الوجوه التي سكتت عن خطيئة الإنقلاب على الشرعية بالقفز على أحكام الدستور في 1992 هي نفسها التي تتشدق بالديمقراطية و تظن ظن الغرور أن جبهة التحرير قد عادت إلى حظيرة الحكم ..فمتى كانت في الحكم حتى تعود إليه.
لا أحد ينكر بأن حزب التجمع الوطني الديمقراطي هو صناعة الجنرال محمد بتشين بمعية النقابي المغتال عبد الحق بن حمودة الذي كان يهيء نفسه لرئاسة الجمهورية قبل أن يضعوا حدا لحياته..وحزب التجمع الوطني الديمقراطي كان بديلا لحزب جبهة التحرير الوطني كما كان نكاية في عبد الحميد مهري الذي رفض المشاركة في الإنتخابات الرئاسيةفي 16 نوفمبر 1995 .لأن عبد الحميد مهري كان يرفض الترقيعات ويرفض القفز على دور الشعب كما كان يرى بأن هذه الإنتخابات الرئاسية التي فاز بها اليمين زروال مقابل الشيخ محفوظ نحناح – رحمه الله- وسعيد سعدي و نورالدين بوكروح هي ملهاة للشعب على حساب الأزمة الحقيقية التي كانت مختزلة في الشرعية.وقد دفع مهري ثمن تعنته بحيث أنقلبوا عليه من هم اليوم يطعنون في المؤتمر الثامن لجبهة التحرير الوطني ويعتقدون جازمين بأن لهم حق الوصاية على جبهة التحرير الوطني بالكيفية التي تروقهم وتروق مطامعهم.. وكان الإنقلاب على مهري أن أصبحت جبهة التحرير الوطني تحوز على الإحترام والتقدير من طرف صناع القرار في الجزائر ..وقبل الإنقلاب الذي أسمته الجهات التي قامت به بالعلمي كانت الوفود التي أكلت باسم جبهة التحرير الوطني قد شدت الرحال إلى حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذى أصبح القوة الأولى في البلاد ولكنها قوة غثائية استطاعت ان تعيث في البلاد فسادا وإلى اليوم لا تزال تداعيات انتخابات أكتوبر1997 وما تركته هذه الإنتخابات من وصمة عار على جبين التاريخ الجوائري بطوله وعرضه.و المتأمل للوضع السياسي في الجزائر منذ الإستقلال يجد أن السياسة هي نفسها غير أن اللعبة تتغير وبدل ما تذهب لتشخيص المرض الحقيقي تبقى تدور بجانب المريض الذي هو الشعب الجزائري الفاهم لكل لعبة تراد أن تلعب على رأسه سواء كانت التجمع الوطني الديمقراطي أو جبهة التحرير الوطني.
على الرغم من ضبابية الرؤية السياسية فيما يتعلق بالإستحقاق الرئاسي القادم لأبريل 2004 .. بيد أن المسألة الإنتخابية تبدو للوهلة الأولى محسومة لصالح عبد العزيز بوتفليقة الذي سيعمل المستحيل لكي يفوز بهذه الإنتخابات ..ويخرج متصرا على كل من يناصبه العداء من الإستئصاليين ودعاة الحل اللاديمقراطي.. وعلى غريمه الأول علي ابن افليس كما تقول بذلك أبواق الصحافة. والواضح أن عبد العزيز بوتفليقة قد بدأفي ترتيب البيت الداخلي بتفجيره لقنبلة المفقودين ولمس الجرح هذه المرة مباشرة بعد أن كان قد تنصل منه من قبل .. وقد يكون فتح ملف المفقودين الذي من المؤكد أن سيعقبه بلجنة تحقيق دولية كما هو موجود كقناعة عند الأغلبية الغالبة ..لأن مثل هذا الملف الحساس جدا يجب أن تسلط عليه الأضواء بشكل يزيل كل الشكوك في أن هذا الملف سيطوى من دون أن يعرف الحل كما هو الشأن بالنسبة للملفات التي سبقت.. كما أن ملف المفقودين يعد ورقة انتخابية وورقة عقد معنوي مع الجهة المتضررة من الأزمة وعشريتها.. مما يتطلب من هذه الجهة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية الإهتمام بهذا الملف الذي طالما انتظرت هذه الفرصة و الإهتمام بمن سيتكفل بهذا الملف مما يعني أن عائلات المفقودين ستكون ضمن الوعاء الإنتخابي الذي يراهن عليه بوتفليقة وورقة رابحة له يوم الفصل وللضغط به على الزمر الأخرى.لكن هناك من العارفين بخبايا النظام الجزائري يذهبون بعيدا في قولهم وهو أن عبد العزيز بوتفليقة لم يقم بكل هذه الخطوات من تلقاء نفسه.. لو لم يجد ضوءا أخضر من طرف النافذين في السلطة الفعلية ودليلهم على ذلك الوئام المدني الذي ثمنه عبد العزيز بوتفليقة بمباركة الجيش وهو الوئام الذي كان سليل قانون الرحمة الذي بدأه الجنرال والرئيس الأسبق اليامين زروال بمساعدة الجنرال القوي آنذاك محمد بتشين .. وكذا تنكره نهائيا للشأن الداخلي والمدة قد قاربت على النهاية.. وكما بدأ بتمرير ملفات قد تبدو من بين أجندة السلطة الغعلية كما يؤكد كثير من الملاحظين .. ومن هذا يتضح أن المعطيات التي جيئت بعبد العزيز بوتفليقة ومنحته صلاحيات قال عنها أنها منقوصة .. هي نفسها التي ستنصبه رئيسا للجمهورية في الشهر الرابع من العام القادم .. فهل هناك ملهاة أكثر من هذه الملهاة .. أم أننا سنصدق أن رئيس الحملة الإنتخابية لعبد العزيز بوتفليقة كان يضمر حبه لكرسي المرادية قبل أن يتحول إلى منافس شرس وعنيد.مشكلة السلطة في الجزائر لا تزال تحسن التغابي بعد أن نسيت أن عليها بحسن التذاكي .. لأن سياسة تمديد الأزمة بصناعة السيناريوهات وتوجيه الأنظارعن جوهر الأشياء يجب أن تكون بذكاء ..لأن النائم قد استيقظ وعرف أن اللعبة مجرد تلهية.........