مايجري في غزة تحت سمع وبصر العالم ليس مذبحة عادية من هذه المذابح التي اعتادت البشرية على السماع بها بين الحين والآخر ، لأن الأمر تجاوز هذه العتبة ليصبح مجازر إبادة جماعية منظمة ضد القيادات الفلسطينية من كل لون وانتماء في غزة
وضد من يمكن استئصال شأفتهم من الأطفال والشباب الفلسطينيين الغزاويين باعتبارهم آخر من تبقى لهذه الأمة ممن يذود عن وجودها ، وأقول وجودها ، لأن هذا الحجم غير المسبوق من الصمت العربي يعني أن الأمة دخلت في مرحلة سبات ماقبل الموت .
هذا الصمت العربي الرسمي والشعبي توازيه أنواع أخرى من الصمت الاسلامي والعالمي ، يبدو أن اتفاقا ما من نوع ما يسيطر على ساحة الاعلام في طول العالم وعرضه ، أكثر القنوات التلفازية الاخبارية الغربية لاتورد أخبار مايجري في غزة من قريب أو بعيد ، وتلك التي تريد حفظ ماء وجهها تعرض الخبر في مالايتجاوز النصف دقيقة فقط ، لقد عرضت إحدى القنوات الاسبانية وفي أكثر من عشرة دقائق خبر تعرض احدى المداجن الى دخان حريق مجاور أدى إلى موت عشرات أفراخ الدجاج "المسكينة" ، وأبرزت مشاهد مأسوية لهذه الأفراخ وهي تنتفض انتفاضات ماقبل الموت ، وكاد المذيع يغمى عليه ألماً لهول مايرى من نزع هاتيك الأفراخ التي كانت تربى أصلا في تلك المزرعة بهدف الاستهلاك البشري!! ، لكن العقاب الوحشي الجماعي ضدّ كفاح شعب يبحث عن حريته والذي تطبقه "اسرائيل " على قطاع غزة لم يأخذ من وقت أخبار تلك القناة أكثر من نصف دقيقة ، وقُدم الخبر على أنه نزال طبيعي مع إرهابيين يعيشون في اسرائيل يقضون مضجعها وينالون عقابهم الرادع !! ، ومادام الأمر كذلك فسيان قضوا على قارعة الطريق دون أن توجد سيارة اسعاف تواسي عذاباتهم أو في بيوتهم تحت القصف الاجرامي الاسرائيلي ، مشاهد الموت والنزع والدماء والجراح الفلسطينية لم تعد تحرك أحدا لافي الشرق ولافي الغرب !.
المؤسف جدا أن بعض "العرب" يمررون مايحدث في غزة من نفس المنظار ، وقد نسوا أن هذه المناطق الفلسطينية هي أراض محتلة من قبل عدو غاشم متسرطن وُجد هناك لسبب واحد لاثالث له هو دك اسفين طويل الأمد بين شرق الأمة وغربها وحفظ حق الغرب في التدخل كلما احتاج لذلك ، لقد كتب أحد الصهاينة الاسبان أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة يقول : "لقد نسي الغرب أننا ومنذ خمسين عاما خط الدفاع الاول والأخير ضد الارهاب الاسلامي الذي يهدد القيم الديمقراطية الغربية " ، جاء ذلك في سياق حملة شنتها الأقلام المأجورة للصهاينة في الصحافة الاسبانية عقب قيام أجهزة الاعلام في ذلك الوقت بتغطية واسعة النطاق للانتفاضة في حينها ، مما قلب موازين التأييد الشعبي للحق الفلسطيني رأسأ على عقب في البلاد وجعل من الكوفية الفلسطينية رمزا للتصدي والتحدي بين الشباب الاسبان – والأوربيين- على اختلاف مشاربهم السياسية ، الأمر الذي أثر بصورة مباشرة على مايجري الآن في وسائل الاعلام الاسبانية والأوربية بشكل عام ، حيث يبدو أن القوم اختاروا الصمت الاعلامي كأجدر وسيلة لتجهيل الجماهير الأوربية بما يجري ، وبالتالي سحب الثقل الجماهيري للرأي العام الأوربي من ساحة هذا الصراع .
لابد من رد هذا الصراع إلى أصوله التي ننساها دائما ونحن مشغولون بالبكاء على ضحايانا من هذا الشعب المعذب الذي يحمل عن سكان المنطقة العربية ومن ورائهم كل من ينتمي الى الأمة الاسلامية عبء الدفاع عن الوجود ، وجود هذه المنطقة بانتماآتها الجغرافية والسياسية والدينية والقومية والانسانية ، ووجود الأمة الاسلامية في وجدان أبنائها على الأقل ، هذا الصراع الذي بدأ بأبعاد دينية بحتة تمثلت في رفض آخر الخلفاء العثمانيين منح وطن قومي لليهود في فلسطين ، ليتم سلخه من بُعده الاسلامي في ظل انبعاث شرارة القومية العربية في المنطقة ليصبح قضية خاصة بالعرب بما في ذلك من إقصاء لكل القوميات المتواجدة فيها من أكراد وأمازيغ وتركمان وأتراك وفرس ، ثم مالبثت القضية أن أصبحت شأنا خاصا بما أسموه "الشرق الأوسط" حيث أبعدت بقية الدول العربية عن التدخل المباشر ، ثم جاءتنا "أوسلو" بالمرحلة شبه النهائية لما ظنته الإجهاز التام على هذه القضية وقصرت مسؤوليتها على السلطة الفلسطينية ، إلا أن الوعي فوق العادي الذي تمتع به في ذلك الحين كل من القائد "ياسر عرفات" والشهيد "أحمد ياسين" ردّ القضية إلى أصلها عبر الانتفاضة الفلسطينية التي عانقت الصحوة الاسلامية اللتين شهدتهما مرحلة مابين القرنين العشرين والواحد والعشرين ، فعادت إلى حضنها العربي الطبيعي ومرجعيتها الاسلامية الأساسية ، لتحرق كل المراحل التي سارت عليها القوى الكبرى الجاثمة على صدر العالم تخطط لحفظ موارد البترول حتى آخر قطرة لصالحها ، كما لحفظ أمنها من خلال كبح جماح هذا العدو الوهمي الذي تريد أن تقنع نفسها والآخرين بوجوده ليكون مبررا لدوران آلة السلاح الرهيبة في أرضها و سببا لازماً لاتحاد كل هذه القوى المتباينة في وجه مايريدون أن يجعلوا منه عدوا تاريخيا أزليا .
هذه الدماء الطاهرة التي تجري في غزة الرباط ، وهذه الأيدي المرفوعة على الرغم من الجراح بالشهادة على الانتماء الى هذه الأمة والسقوط في سبيلها ، هذه الجثث التي تكومت في برادات ضمائرنا من المحيط الى المحيط ، هي أكبر شاهد على أن مايجري في فلسطين ليس مسألة احتلال فحسب ولكنها معركة وجود ، أخطر مافيها هو موت الضمير الانساني في المنطقة العربية ، وانعدام الشعور بالكرامة لدى مواطنيها ، ولامبالاتهم بما يجري لاخوانهم المرابطين نيابة عنهم في هذه الارض المقدسة التي حولها الاستيطان الاسرائيلي إلى أكبر سجن عرفه التاريخ .
بذور الخنوع والذل والخضوع المزروعة في نفس الانسان في منطقتنا العربية جعلته عاجزا عن التحرك حتى على الطريقة "البيروانية" أو "الاكوادورية" ، شعوب تنتصر لكرامتها كلما مّست كرامتها ، بينما لانتمتع نحن بأي إحساس بالكرامة ، لقد أدى اعتداء أحد النازيين العنصريين الاسبان على فتاة ايكوادورية في مترو مدريد أن قامت القيامة في الايكوادور ولم تقعد حتى اضطر الشعب حكومته أن تتحرك إلى درجة حملت رئيس الوزراء الاسباني أن يقدم اعتذارا رسميا للفتاة وأهلها ودولة الايكوادور كشعب وحكومة ، علماً بأن الايكوادور واحدة من أفقر دول العالم وأكثرها تخلفاً ، وأن المواطنين الايكوادوريين المتواجدين في اسباينة لايخرجون عن كونهم مهاجرين مساكين يعمل معظمهم في مجال البناء والخدمات المنزلية ، ولكن الفقر والحرمان لايعني أن هؤلاء القوم محرومون من نعمة الاحساس بالكرامة . اعتداء على فتاة واحدة أقام الدنيا ولم يقعدها وذبح شعب بأكمله لم يحرك من العرب لانخوة المعتصم ولانخوة الايكوادوريين!.
إن القضية الفلسطينية هي قضية كل مسلم وعربي في هذا العالم ، إنها قضية تتعلق بعقيدة الأمة ووجودها ، ولايستقيم انتماء أي منا لهذه الأمة دون أن يعرف هذه العلاقة الاستثنائية بين القضية الفلسطينية ووجوده ، تحرك الجماهير في المنطقة العربية لحمل حكوماتها على قطع علاقاتها الدبلوماسية المشينة مع العدو الاسرائيلي مسألة حيوية ، استرداد هذه الجماهير لشعورها بالكرامة وقدرتها على الفعل والتغيير أصبح قضية مصيرية ، إن استمرار صمت الانسان في المنطقة العربية على مايجري تحت سمعه وبصره في فلسطين لايقدم المبرر للآخرين في الاستمرار بالصمت والمشاركة في المذبحة بطرق "حضارية " فحسب ولكنه يقدم الدليل الناصع على الهلاك الجماعي لأمة يذبح أبناؤها أمام ناظريها وهم يدافعون عن آخر ماتبقى لها من شرف وكرامة وهي تنظر لاهية ساهية غارقة في وهنها الآسن المشبوه.
_________________________________
* جريدة العرب القطرية
* بعد الفراغ من كتابة هذا المقال بدقيقتين وقعت عملية القدس في المدرسة الدينية ، فظهرت في كل القنوات التلفزيونية الاسبانية مع بث مباشر من مراسلوها في القدس ، ودعي مجلس الأمن "المعظم والموقر والإنساني" للاجتماع خلال ساعتين من وقوع الهجوم!.