قبل أيام معدودة ، عقدت القمة العربية العشرون في دمشق العاصمة السورية . وقد أعادت هذه القمة التأكيد على المبادرة العربية كخيار استراتيجي وحيد للسلام العربي مع إسرائيل ، بالرغم مما أشيع في حينه عن إمكانية سحبها . إلا أن الحال لم تتغير . لم تهدأ الجرافات الإسرائيلية لحظة واحدة عن مصادرة الأرض الفلسطينية ، وإقامة المشروعات الإستيطانية عليها ، ضاربة عرض الحائط ، حتى " بانتقادات " الإدارة الأميركية لمثل هذه المشروعات التي حسب ادعائها تشكل " عقبة " أمام خارطة الطريق . ليست المرة الأولى ، ولن تكون الأخيرة التي ترسل فيها إسرائيل رسائل واضحة ، لا تقبل التأويل ، تتمثل في رفضها لخيار السلام العربي المتمثل في مبادرة السلام العربية . ومثالا لا حصرا ، رسالة الإجتياح الكبير للأراضي الفلسطينية غداة ولادة هذه المبادرة العربية ، كأحد منجزات قمة بيروت في العام 2002 . ويومها غفت هذه المبادرة ، وظلت في طور الكمون . ومنذ ذلك الزمن ، وما قبله ، ظلت الجرافات الإسرائيلية تصول وتجول في الجغرافية الفلسطينية تلتهم منها ما تشاء وتتشهى .
وبين العامين 2002 و 2008 الحالي ، كانت هناك ست سنوات ، انفرد الإسرائيليون بالفلسطينيين ، أذاقوهم فيها الأمرين ، جراء الحرب الشرسة التي أعلنت عليهم ، وكانت سهام الرسائل الإسرائيلية موجهة صوبهم ، متمثلة في مسلسل اجتياحات مدمرة للحجر والشجر والبشر . وكانت شهية إسرائيل لافتراس المزيد من الأراضي الفلسطينية مفتوحة على مصراعيها كعادتها دائما وأبدا ، بغية توسيع خارطة الإستيطان وتكريسها على أرض الواقع . ولم تنج القدس من سهام التهويد التي أصابتها في الصميم .
أما ما يخص مركبات مبادرة السلام العربية ، وهي الخيار العربي الوحيد ، فإن الرد الإسرائيلي عليها لم يتغير البتة . إن إسرائيل تشترط لقبولها إفراغها من ثوابت القضية الفلسطينية التي طالما أشهرت لاءاتها في وجهها .
وإمعانا في التأكيد على رفضها ، وإضافة إلى مسلسل الإجتياحات المستدامة ، ما زالت الحكومة الإسرائيلية تطرح عطاءات إنشاء المستوطنات الجديدة ، أو توسعتها من خلال إقامة مئات الوحدات السكنية ، وآخرها 1800 وحدة سكنية في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الفلسطينية . وتذكيرا فقد سبق وأن شرعت في بناء حيين إستيطانيين جديدين في القدس ، يضمان أكثر من عشرين ألف وحدة سكنية . وبذا فإنها تستكمل ترسيم خارطة تهويد القدس جغرافيا وديموغرافيا ، وطمس طابعها العربي الإسلامي وتقزيمه .
إنه الإستيطان . والإستيطان من منظور إسرائيلي ، لا يعني مجرد اغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينية ، ولا مجرد إقامة الوحدات السكنية وما يتبعها من مرافق ، ولا إنشاء الطرق الإلتفافية ، ولا بناء جدار العزل العنصري فحسب ، وإنما هو تكريس لكيان واحد وحيد على الأرض الفلسطينية هو الكيان الإسرائيلي ليس إلا . أما ما يسمى بالعملية السلمية بكل مسمياتها وأشكالها ، فهي مجرد مهدئات سياسية ، تقتضيها طبيعة الظروف الآنية ، وسرعان ما تفقد مفعولها ، ويتم الإنتقال إلى سواها ، وهكذا دواليك .
إلا أن الأخطر من هذا كله هو تمسك الأنظمة العربية بخيار واحد " خيار السلام " على علاته ، وثبات فشل مركباته ، وعدم جدواه ، تحت ظلال الرفض الإسرائيلي الذي هو دون أدنى شك يشكل استراتيجة سياسية غير قابلة للتغيير .
وهنا تتبادر إلى الأذهان أسئلة لطالما رددها المواطنون الفلسطينيون ، وهم يرقبون بحسرة وألم ما آلت إليه أحوال العالم العربي الذي يعيش حالة فريدة من انعدام الوزن السياسي والإقتصادي والثقافي : لماذا هذا الإصرار العربي على خيار يعلمون يقينا أنه مرفوض من قبل الطرف المعني ؟ . لماذا لا يكون للأنظمة العربية بدائل أخرى ، ولا يفترض بالمقصود هنا البديل الحربي ؟ . هل هذا عجز أم تعاجز ؟ . هل هذا نتاج إراداتهم ، أم أنه طرح مفروض عليهم تسويقه بأي ثمن كان ؟ .
إن الأسئلة كثيرة . وحقيقة الأمر إنها تساؤلات استنكارية ، وأجوبتها معروفة مسبقا . لكن الأهم من كل هذا سؤال لا بد من طرحه : هل تعرف الأنظمة العربية ما يدور في تفكير المواطن الفلسطيني تجاه هذا كله ؟ . ونحن هنا نجيب مقتبسين إجابتنا من بيت الشعر العربي إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة - وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم .
أجل إن الأجوبة باتت معروفة للقاصي قبل الداني ، والمصيبة الفلسطينية أصبحت أعظم . إنها تنطلق جميعها من كون الأنظمة العربية ، قد تخلت عن القضية التي كانت ذات يوم قضية العرب الأولى . إن الأنظمة العربية قد التزمت جانب الحياد والصمت والمشاهدة عن بعد ، واجترار خيار سلام لا يسمن ولا يغني من جوع .
فلسطينيا ، إن الإستيطان يعني شرعنة استلاب الأرض التي هي مادة الوجود الفلسطيني الرئيسة . والفلسطينيون لا يتصورون سلاما دائما مع استلاب هذه الأراضي ، وهي ليست أية أراض ، وإنما هي منتقاة ومختارة بعناية تؤدي وظائف تخدم أهدافا احتلالية استراتيجية جغرافية وديمورافية بعيدة المدى .
وللتذكير فإن الأراضي التي يقوم عليها الإستيطان الإسرائيلي هي قمم الجبال والمرتفعات الفلسطينية التي تشكل مواقع أمنية واستراتيجية للتحكم بكل التجمعات الفلسطينية والإشراف على طرق مواصلاتها . وهي خيرة الأراضي الخصبة التي يعتاش على غلالها الفلسطينيون . وهي الأراضي التي تشكل مخزونا اسراتيجيا ديموغرافيا لاستيعاب الزيادات الناجمة عن النمو السكاني الفلسطيني الطبيعي .
وهي أخيرا لا آخرا أراضي آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين . وهي القدس التي تشكل مساحة مرموقة من التاريخ العربي الإسلامي ، والعقيدة الإسلامية . وهي الأقصى المبارك الذي يتربص له من يسمون بأمناء الهيكل المزعوم .
وفي حقيقة الامر ان إسرائيل منذ العام 1967 ، لم تهدأ جرافاتها لحظة واحدة بغض النظر عن ألوان السياسات التي كانت تحركها يسارية أم يمينية أم وسطية ، أو سواء كانت إسرائيل في حالة حرب مع العرب ، أو تحت ظلال العملية السلمية التي يفرتض أنها قامت على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام . إن الإستيطان من منظور إسرائيلي هو خارج معادلة أي سلام . وعلى ما يبدو أن أقصى ما يمكن أن تقدمه أكثر السياسات الإسرائيلية تسامحا وتساهلا هو فترة استراحة لجرافاتها وآلياتها الأخرى ، تلتقط أنفاسها خلالها استعدادا لنشاط موعود جديد ومخطط له .
إن الشعب الفلسطيني الذي دخلت نكبته عامها الستين ، والذي يستعد لإحياء الذكرى السنوية الحادية والأربعين لاحتلال كامل تراب وطنه ، مدرك تماما أن المشروع الإستيطاني الصهيوني ، لا يتقاطع بأية نقطة مع مبادرة السلام العربية ، ولا يحسب لها أي حساب يذكر، وأنه ماض غير آبه بها ، ولا يمكن في يوم من الأيام أن تشكل مدخلا للسياسة الإسرائيلية التي عودته الأنظمة العربية على عدم جديتها فيما يخص كل طروحاتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية .
وحقيقة القول ، لقد اعتاد الشعب الفلسطيني على شتى أشكال الظروف القاهرة ، وهو من المناعة بحيث أن ظرفا ما أيا كان لن يقدر على إحباطه أو تدمير قواه الذاتية التي حافظ عليها عبر أقسى نضالاته . وهو مدرك وواع ومستعد لكافة الإحتمالات ، وأولاها فشل العملية السلمية برمتها . وفي هذه الحال لن يكون هو الخاسر الوحيد . ورب ضارة نافعة . فلعل هذا الفشل المحتم ، يفتح آفاقا أخرى ، ولعله يطرح خيارات عربية ذات مصداقية ، تكون نابعة من إحساس عروبي لم يعد يحتمل الإنتظار على واقعه المرير.
كلمة أخيرة . لقد تمادى الإستيطان الإسرائيلي في مشروعاته التوسعية رأسيا وأفقيا ، وبات يعكس تصورا آخر لديمومته يخشى معه ، وهذا ليس مستبعدا ، أن يكون قاعدة لدولة للمستوطنين بدل دولة للفلسطينيين . هناك مئات المستوطنات الإسرائيلية التي تستهلك ستة أضعاف ما يستهلكه المواطن الفلسطيني من المياه الجوفية الفلسطينية . هناك الهواء والأجواء الفلسطينية التي يتحكم بها الطيران الإسرائيلي . هناك جدار العزل العنصري . هناك الطرق الإلتفافية . وهناك قبل هذا وذاك المماطلة والتسويف وعدم الجدية في التحرك شطر السلام الحقيقي . والسؤال الذي يفرض نفسه هنا : أو ليس في هذا كله عبرة لمن يريد أن يعتبر ؟ .