تحت ظلال هذا الصمت العربي المنتمي إلى عائلة العجز واللامبالاة ، علقت كثير من القضايا العربية التي يفترض أن تكون لها أولوية البحث وإيجاد الحلول . إلا أن إهمالها وعدم الخوض فيها إلا من قبيل ذر الرماد في العيون ، يخشى أن يحمل في طياته التخلي النهائي عن هذه القضايا ، وترك كل قطر عربي يتخبط في قضيته . حتى الآن يمكن لنا أن نحصي عددا لا بأس به من هذه القضايا العالقة . في مقدمتها القضية الفلسطينية بعامة ، وقضية القدس بخاصة . وها هي الذكرى الستون للنكبة الفلسطينية على الأبواب ، وأقل ما يقال في هاتين القضيتين أنهما أصبحتا رهن المشروعات الإستيطانية والتهويدية .
والأنكى من ذلك أن هناك سياسات ورؤى يستمدها الإحتلال الإسرائيلي من تأييد منقطع النظير لكل خطواته من حليفته الإستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية التي لعبت دورا خطيرا في خداع الشعب الفلسطيني ، موهمة إياه بأنه أصبح قاب قوسين أو هو أدنى من دولته الفلسطينية . إلا أنها تظل ستين عاما عجافا هي عمر النكبة ، وليس هناك من بصيص نور في آخر النفق . إلا أن الأخطر من هذا كله أن ما يجري على الساحة الفلسطينية ، قد أصبح وكأنه لا يعني الأمة العربية بأي شكل من الأشكال .
وإذا كانت هذه حال ما يفترض بها أنها أقدس قضية عربية وإسلامية ، وأقدمها في تاريخ العرب المعاصر . فماذا يمكن أن يقال عن قضايا عربية أخرى لها أهمياتها وتأثيراتها وتداعياتها المحلية والإقليمية في العراق وفي السودان وفي الصومال وفي لبنان ؟ . ومرة أخرى نؤكد ما أشرنا إليه في مقدمة حديثنا من أنها قضايا لم تعد تهم الأنظمة العربية ، ولا العالم العربي . وعلى ما يبدو أن إطلاق مسمى قضايا عربية عليها قد يكون هو الآخر فيه ابتعاد عن جوهر الحقيقة .
وحقيقة الأمر أننا لا يتجنى أحد منا على العالم العربي أنظمة وشعوبا ، ولا يظلمه البتة حينما يصف الحال التي يمر بها بأنها حالة صمت وعجز غير مسبوقة في تاريخه إزاء قضايا يفترض أنها مصيرية ، وهي في نفس الوقت لا تهم شعبا من شعوب الأمة العربية دون آخر ، بل هي على العكس قضايا قومية تمس الجميع آجلا أم عاجلا ، وسواء أدركوا هذه الحقيقة أم تجاهلوها .
ثمة حقيقة يفترض أن لا تغيب عن البال أن أعداء العالم العربي والأمة العربية الذين يكيدون لهما ، ويتربصون بهما ، ويحيكون لهما في الخفاء والعلن ، لم يكونوا ينظرون إليهما إلا على أنهما وحدة واحدة . والحملة الراهنة لا تستهدف شعبا بحد ذاته ، وإنما تتربص بالعرب جميعا أينما كانوا ووجدوا دونما أي تفريق بين أقطارهم .
لكن العالم العربي يسير بعكس تيار المنطق والعقلانية فيما يخص تفاعله مع الأحداث المحيطة به ، والتحديات التي تنصب عليه ، أو تلك الأزمات التي تحل به ، أو أنها ما زالت تلازمه منذ عقود . إن المفترض أن يزداد وعيه للأخطار المحدقة به ، والآخذة بالتفاقم ، كونه دون أدنى شك يمر بمرحلة من التطور في عديد من الصعد العلمية والمعلوماتية والإقتصادية والتي يفترض أن تزيد من وتيرة إدراكه بأن مقدراته مستهدفة ، وبالتالي فإن عليه أن يواجه هذا الإستهداف وهذه التحديات بقدر معقول ومواز من التماسك والتضامن العربيين في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء ، وفي عصر هو عصر التكتلات والأحلاف .
إلا أن معادلة العالم العربي في هذا الصدد عكسية . فهو آخذ في التشرذم والإنكماش والتقوقع القطري في جو من اللامبالاة وعدم الإكتراث بما يدور في ساحته العربية . وهذا ما يسمى حالة صمت العجز العربي التي فقد فيها كثيرا من المشاعر والأحاسيس القومية ، فبات لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم ولا ينفعل إزاء ما يجري مثالا لا حصرا في فلسطين أو ما ينتظر غيرها .
وإذا كنا هنا نذكر فلسطين فلأن لها خصوصية قومية وعقائدية ، ويفترض أنها قاسم مشترك أعظم لكل العرب والمسلمين . فالقدس وتحديدا الأقصى الذي بارك الله حوله هي جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية التي يدين بها غالبية العرب . وهي أمانة تاريخية وإرثية ودينية في أعناقهم جميعا ، لا في أعناق شعب واحد فقط .
ولا يفترض بأي حال من الأحوال أن يلتزم بها شعب واحد أعزل مشرد محتل محاصر مضطهد نازف الجرح منذ ستة عقود ، وهو الشعب الفلسطيني الصامد المرابط الحائل دون تهويد الأرض والمقدسات ، بينما يتفرج عليه بصمت ولا مبالاة ودون أي اكتراث ستة وخمسون شعبا عربيا ومسلما ، وتحديدا عشرون شعبا عربيا يفترض انهم الأقربون .
إن الإنسان يتساءل ، والحال هذه ، : لماذا انقلب العالم العربي هذا المنقلب ؟. وأين الجماهير العربية ؟ وماذا حل بها حتى أصبحت على هذه الحال ؟ وهل هي حالة دائمة لا سمح الله أم أنها " شدة وتزول " ؟ . وبرغم ذلك كله فنحن الفلسطينيين باعتبارنا الشعب العربي الأوحد الذي ما زالت تنزل في ساحته الكوارث وتحل المآسي منذ ستة عقود ، والذي يشعر أنه فقد عمقه العربي في أحلك أوقاته وأصعبها وأمرها ، لا نريد أن نفقد الأمل في غمرة هذا اليأس الكبير ، ولا أن نجعل القنوط يستحكم في نفوسنا برغم أنه يحتل مساحة شاسعة منها .
في خضم هذا الصمت العربي اللامبرر ، تبرز حقيقة مرة مفادها أن العالم العربي أنظمة وشعوبا اليوم غيره بالأمس . فثمة الذين ازدادت أموالهم أكثر بكثير مما كانوا يحلمون في يوم من الأيام ، فأصبح لهم اهتماماتهم وشؤونهم الخاصة التي يسرحون في ساحاتها وينعمون من خلالها بما أنعم الله عليهم من آلاء . ويمكن استقراء ذلك جليا من خلال فضائياتهم المتخمة بالمهرجانات التسويقية والمباريات الرياضية والأمسيات الفنية والمسابقات التي تغدق الملايين وترش الذهب رشا .
وثمة الذين يزدادون فقرا على فقرهم ، ويعانون غائلة ارتفاع الأسعار ، أو أنهم بلغة الإقتصاد المهذبة يواجهون حالات من الكساد الإقتصادي والبطالة ، الأمر الذي يفرض عليهم السعي المميت وراء رغيف الخبز والدواء وتأمين قسط ما من العلم لابنائهم .
لكن القاسم المشترك الأعظم لهؤلاء وهؤلاء هو الأنظمة العربية التي اختطت لنفسها نهجا بعيدا كل البعد عن الديموقراطية الحقيقية والحريات الإنسانية الأساسية ، وفرضت على شعوبها هذا الصمت كي لا يصبح " الكلام " مساسا بأمنها واستقرارها هي ، أو يزعج الآخرين الذين يدان لهم بالولاء . وكأن لسان حال هذه الأنظمة العربية يردد المثل العربي القائل : " اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب " .
ان الأنظمة العربية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذه الحال العربية ، كونها أساسا تقوقعت في قماقمها القطرية وعملت فرادى ، وكان لكل منها " منظورها الهزيل " تجاه القضايا أيا كانت . وهي جميعا شاركت وساهمت في التفريط بالثوابت والمواقف واللاءات التي كانت حصنها الحصين وسورها الحامي العظيم ، ورفعت شعارات سلام استراتيجي من جانب واحد ، وتدثرت بإزار الخوف والمسكنة والإستجداء ، وتجاهلت بأن هناك " لا " لا ينبغي أن تغيب عن اللسان العربي لأي كائن مهما كان ، وانه في النهاية وكما يقول المثل الشعبي " لا يقطع الرأس إلا من ركبه " .
إن الشعب الفلسطيني في وطنه ، وفي الشتات يتألم لهذا المشهد العربي التخاذلي الكارثي . إنه يخشى على هذه الأمة أن يحل بها مزيد من الكوارث لا سمح الله جراء سياسات أنظمتها ، وصمت جماهيرها التي على ما يبدو ارتضت هذا الواقع المرير . والشعب الفلسطيني يخشى كل الخشية ان تتفكك كل عناصر الإنتماء القومي في هذه الأمة العربية وتنحل مع الأيام لتتحول إلى مجرد شعوب ناطقة باللغة العربية ليس إلا ، وللأسف فحتى العربية لم تعد مانعة في ظل تراجعها الملحوظ تحت وطأة هذا الغزو الثقافي العولمي ، ولا يعود يربطها بعضها أكثر مما يربطها بالشعوب الأخرى .
إن الفلسطينيين يذكرون أشقاءهم العرب إذا كانوا حريصين على عروبتهم أن القضية الفلسطينية – والقدس في صميمها – هي العنصر الوحيد الذي ما زال يذكرهم بعروبتهم وجزء هام من عقيدتهم ، بعد أن لم يعد هناك أي طرح لأية مشروعات وحدوية عربية إقتصادية كانت أو سياسية أو ثقافية أو غيرها على الأجندات السياسية العربية ، وبعد أن غابت شمس الوحدة العربية ، لعل الذكرى تنفع المؤمنين . ويظل السؤال : إلى أين هذا الصمت ، وهذا العجز ، وهذه اللامبالاة ، وإلى متى