وقعت الفصائل الفلسطينية برعاية مصرية ، مع تحفظ البعض وحقه في الرد ، على وثيقة مشروع تهدئة ، وحتى لا يكون هناك أي تأويل آخرللعنوان الذي اخترناه ، إرتأينا بداية أن نفسره بما لا يدع مجالا للشك فيه . إن المقصود بالتهدئة ، هو ما يريده الفلسطينيون ، وما يمليه المنطق ، والمتمثل في أن تكون التهدئة تبادلية تزامنية وشاملة . بمعنى أن يتبناها الطرف الإسرائيلي ، وأن يقبل بها قلبا وقالبا ، لا أن تكون من طرف واحد هو الفلسطيني . وهي شاملة ، بمعنى أن تنطبق على كل الأراضي الفلسطينية – الضفة الفلسطينية والقطاع - دون استثناء - . وينطبق هذا الشمول على كل الفعاليات القتالية والممارسات الإحتلالية بكافة أشكالها . ومثالا لا حصرا الإجتياحات والإغتيالات والإعتقالات ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتوسيعها .
إلا أن الأهم من ذلك ، أن مفهوم التهدئة من منظور فلسطيني ، لا ينبغي له الحفاظ على الوضع الحالي ، والتوقف عنده ، بمعنى أن يظل المشهد السياسي الحالي خاليا من أية بادرة أمل لعملية سلمية جادة ، لا يماطل الإسرائيليون فيها ، ولا يخادعون ، ولا يشترطون اشتراطات تعجيزية ، ولا يفرضون منظورهم لها . وزيادة على ذلك أن يقبلوا بما أقرته الشرعية الدولية من قرارات ، تؤكد على ضرورة استعادة الفلسطينيين لكامل حقوقهم المشروعة ، في إطار سلام عادل وشامل مقابل الأرض .
وإذا كان هذا هو منظور التهدئة الفلسطينية ، فإن التهدئة من منظور إسرائيلي ، لم تكن في يوم من الأيام إلا من طرف واحد ، هو بطبيعة الحال الطرف الفلسطيني . وهي بمعنى أدق وأصح حالة تكريس للإحتلال الإسرائيلي . وكلا مفهوم التهدئتين على طرفي نقيض . إن الإسرائيليين يفترضون التهدئة من طرف واحد هو الفلسطيني . وهي بأي شكل من الأشكال لا تسري عليهم ، ولا على ممارساتهم الإحتلالية .
وحقيقة الأمر فإن الإسرائيليين إذا ما قبلوا بصيغة ما للتهدئة فهي مجرد تجميد محدود جدا لممارساتهم العدوانية سواء في القطاع ، أو بقية الأراضي الفلسطينية . إنها باختصار حرب شعواء لا هوادة فيها ما زالت تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني بشرا وحجرا وشجرا منذ زمن بعيد ، سواء كانت هناك ردود أفعال فلسطينية على هذه الممارسات العدوانية أو لم تكن .
ومثالا لا حصرا ، وتذكيرا بما آلت إليه الأوضاع الماساوية في مجمل الأراضي الفلسطينية ، ووفقا لتقرير منظمة العفو الدولية " أمنستي " الذي صدر مؤخرا ، فإن إسرائيل قد قتلت خلال العام المنصرم 2006 ، والذي يفترض أنه عام تهدئة ، ستمائة وخمسين فلسطينيا ، نصفهم من المدنيين العزل ، وبينهم مائة وعشرون طفلا ، وذلك بزيادة قدرها ثلاثة أضعاف معدلات العام 2005 . وهذه الأرقام لا تشتمل على أعداد الضحايا الفلسطينيين منذ بداية العام 2007 حتى نهاية شهر أيار / مايو من ذات العام ، ولا أعدادهم منذ حزيران / يونيو من العام 2007 حتى بدايات أيار / مايو من العام ، 2008 والتي سجلت ارتفاعا ملحوظا ولا فتا للنظر .
إلا أن أعداد الشهداء الفلسطينيين ، والجرحى ، والمعتقلين ، لا تشكل مجمل صورة المشهد الكارثي الفلسطيني العام ، بأي شكل من الأشكال . واستكمالا لقراءة تقرير منظمة العفو الدولية ، فإن إسرائيل ، إضافة إلى كل ما ذكر آنفا ، قد عمقت سياساتها هوة الفقر في الأراضي الفلسطينية ، وساهمت إسهاما ملحوظا في انحدار معدلات الإقتصاد الفلسطيني ، وإيصاله إلى حدود الكارثة . وإذا ما أضفنا شبكة الحواجز العسكرية التي تعدت الستمائة ، علاوة على قيود التنقل الأخرى ، فساعتئذ يمكن استقراء الأوضاع الكارثية التي يعيشها الوطن .
ومما لا شك فيه ، أن هذه السياسات القمعية الجائرة ، قد أدت إلى تدهور الأوضاع الإنسانية في كافة الأراضي الفلسطينية إلى مستوى غير مسبوق ، وأفرزت أوضاعا كارثية في شتى المجالات الصحية ، والتعليمية ، والإجتماعية ، وارتفاع معدلات البطالة وغيرها .
ولم يقف تقرير منظمة العفو الدولية عند هذه الحدود ، بل تعداه إلى انتقادها إسرائيل على مواصلة مصادرة الأراضي الفلسطينية ، وذلك بغية بناء المزيد من المستوطنات ، أو توسيع القائم منها . كما أن التقرير لم يستثن توجيه نقد لتكثيف العمل في بناء جدار الفصل العنصري الذي أفرز حالات كارثية على كافة الصعد الفلسطينية .
ونحن هنا لم نتحدث عن الأوضاع الكارثية التي تضرب الأراضي الفلسطينية جراء السياسات الإسرائيلية القمعية من منظور فلسطيني . لقد آثرنا هذه المرة أن نسرد بعضا منها من خلال وجهة نظر دولية محايدة . وفي هذا الصدد ، لم نجد أصدق تعبيرا من تقرير منظمة العفو الدولية .
وعودة إلى موضوع التهدئة . فهي من أساسها غير منطقية . وهي غير عقلانية ، كونها بين طرف هو الشعب الفلسطيني ، واقع فريسة لمحتل لا يرحم . إنه جيش الإحتلال الإسرائيلي الذي يصول ويجول في ثلاثية البر والبحر والجو الفلسطينية ، زارعا الخراب والدمار والموت فيها . إن إسرائيل تريد تهدئة من طرف واحد ، لا تشملها بأية صورة من الصور ، تبيح لها أن تفعل ما تشاء ، تجتاح ، تقتل ، تعتقل ، تدمر ، تصادر .
وإذا ما كانت هناك ردود أفعال فلسطينية متواضعة على سياساتها هذه ، فإن لها من منظورها ومنظور حليفتها الولايات المتحدة الأميركية الحق في الدفاع عن نفسها . وهو دفاع هجومي شرس ، مفرط باستخدام القوة ، لا يعرف الرحمة ، لا يميز بين مقاتل وبين مواطن أعزل ، لا حول له ولا قوة .
لقد أثبت المرات العديدة السابقة ، أن هذا النمط من التهدئات ، لا يمكن له أن يثبت ، أو أن يكتب له الإستمرار أو النجاح في وقف الممارسات العدوانية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني . عدا عن أن الذي يطلبه الشعب الفلسطيني أكثر بكثير من لعبة التهدئات التي تفتقر إلى أدنى ذرة من التبادلية والمصداقية . إنها والحق يقال ، قد أصبحت من منظور إسرائيلي غاية في حد ذاتها ، لا وسيلة لمرحلة متقدمة تنتفي فيها كل أعمال العنف ، وتخطط لسلام دائم وعادل .
إن المطلوب أفق سياسي للقضية الفلسطينية ، تلوح منه بارقة أمل ، إضاءة في خر النفق ، بادرة تسوية عادلة ، تنهي كافة المظاهر العدوانية الإحتلالية ، وتنهي معها الإحتلال الإسرائيلي البغيض ، وتؤسس لسلام دائم وعادل ، لا يحمل في طياته أدنى انتقاص للحقوق الفلسطينية المشروعة .
إلا إننا نشك في ذلك . ولا يتأتى هذا الشك من دافع التشاؤم . إننا انطلاقا من تجاربنا السابقة المريرة مع الإحتلال الإسرائيلي ، تشكلت لدينا وتعمقت قناعات مفادها أن إسرائيل غير معنية لا بتهدئة ، ولا عملية سلمية ، ولا بأي شكل من أشكال السلام المنصف . ويقينا إن المنظور الإسرائيلي للتسوية مع الفلسطينيين ، ينبع من عقيدة ساسة إسرائيل المتمثلة في فرض السلم الإسرائيلي الذي لا يحمل إلا مضمونا واحدا هو الهيمنة ، ولا شيء إلا الهيمنة على الشعب الفلسطيني ومقدراته ، لاغيا قضيته من جذورها .
كلمة أخيرة . ليس من المستبعد أن إسرائيل ، إذا ما قبلت التهدئة هذه المرة ، أن يكون قبولها حالة مؤقتة ، أملتها ظروف احتفاليتها في الذكرى الستين لإنشائها ، والتي سيكون نجم هذه الإحتفالية الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ، وهناك تصريحات من قادة عسكريين كبار توحي بذلك . وإسرائيل تملك من المبررات الكثير الكثير لنقض هذه التهدئة ، وهي موجودة على الدوام ، وإن أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية لاحتلالها غير الشرعي ، يحمل في طياته بذور نقض هذه التهدئة . وإن غدا لناظره قريب .