غادر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الشرق الأوسط في آخر زيارة له كرئيس للولايات المتحدة الأميركية . وكانت الزيارة التي قام بها لإسرائيل ، قد جاءت على خلفية مشاركتها احتفالاتها في الذكرى السنوية الستين لإنشائها ، وتأكيد العلاقات الإستراتيجية التي تربطهما معا . هذه الزيارة لم تفاجىء الشعب الفلسطيني الذي يعتبر أن الولايات المتحدة الأميركية ، كانت ولا تزال منحازة قلبا وقالبا للكيان الإسرائيلي ، وتكيل له بمكيال ذهبي خاص به . ولسنا هنا بصدد إعادة قراءة خطابه في الكنيست الإسرائيلية . إن ما قاله قد بات معروفا للقاصي والداني . ولا يخرج عن كونه ترجمة فعلية لمواقف إدارته المنحازة بكل معنى الإنحياز .
هذا الإنحياز الذي جعل الولايات المتحدة الأميركية عبر رؤسائها الديموقراطيين والجمهوريين خلال ستة عقود من النكبة الفلسطينية ، لا يرون من الصورة إلا مشهدا واحدا ، هو بطبيعة الحال المشهد الإسرائيلي في الذكرى السنوية الستين لإنشائه ، ويتعامون عن المشهد الفلسطيني الآخر في الذكرى السنوية الستين لنكبته .
باختصار فإن هذا الخطاب هو خلاصة ثمانية أعوام من التحيز السافر المطلق ، أبى الرئيس الأميركي إلا أن يختمها بهذه التظاهرة العلنية من الدعم والتعهدات والضمانات والتأييد لإسرائيل ، والتهديد والوعيد لأعدائها ، مضيفا إلى كل ذلك رهن مصير ثلاثمائة مليون أميركي ، أكد أنهم سوف يقفون إلى جانبها ويدافعون عنها ضد ما أسماه إرهابا وكراهية وتهديدا لوجودها ، وهو بهذا يصر على أن الأمن من منظوره لا يتحقق إلا عبر منطق القوة والحروب .
وإلى هنا فنحن أيضا لا نفرق بين رئيس أميركي وآخر . إن كل رئيس أميركي له ما له من أياد بيضاء ، أسهمت في تثبيت وجود الدولة العبرية التي قامت على أنقاض شعب آخر هو الشعب الفلسطيني الذي اقتلع من أرضه ، وهجّر من وطنه التاريخي إلى منافي الشتات والإغتراب . وها هو بعد ستين عاما من التشرد والضياع في الوطن المحتل والدول المجاورة موزع بين أربعين مخيما تنعدم فيها أبسط الشروط الإنسانية لحياة البشر .
لقد أضاف كل رئيس أميركي منذ تأسيس إسرائيل في سجل تأييده لها ما استطاع إليه سبيلا . ولم يبخل عليها بالمال والسلاح والدعم المعنوي والسياسي والتحالف الإستراتيجي ، وتسخير الفيتو الأميركي للدفاع عنها ، وفي مرات كثيرة وقفت أميركا وإسرائيل وحيدتين في وجه العالم ، غير آبهتين بأي شكل من أشكال الإنتقاد الموجه لسياساتهما .
إلا أن ولايتي الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش الأولى والثانية ، وقد أشرفتا على الإنتهاء ، قد أسهمتا في تجسيد المآسي الفلسطينية وتعميقها إلى حد بعيد ، وفي رسم صورة قاتمة لكل آمال الفلسطينيين ، فباتوا وهم لا يحصدون إلا خيبات الأمل والإحباط من السياسات الأميركية التي تعامت عن حقيقة وجود احتلال إسرائيلي يرزح تحته وطن وشعب يتوقان للخلاص والتحرر والحرية وحق تقرير المصير .
لقد أكد الرئيس الأميركي على ما أسماه الحقوق الإسرائيلية التاريخية في فلسطين المغتصبة ، في حين أنه تجاهل شأنه شأن كثير ممن سبقوه إلى البيت الأبيض الحقوق الفلسطينية التي أقرتها الشرعية الدولية عبر قراراتها الشاهدة على ذلك ، والتي التفت عليها الإدارات الأميركية ، ضاربة عرض الحائط بها ، وبكل ما يؤكد مشروعيتها .
وعلى ما يبدو فإن الرئيس الأميركي بإدارته التي يسيطر عليها صقور المحافظين الجدد ، قد اعتبر وعد بلفور ناقصا ، فأقدم على استكماله لرئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك الجنرال شارون وأضاف عليه نص " أحقية إسرائيل " في الإحتفاظ بالكتل الإستيطانية الرئيسة المقامة على أراض فلسطينية مغتصبة . وهذا يعني شرعنة أميركية للإستيطان بوحداته السكنية ، وجدار الفصل العنصري الذي يحميه ، وطرقه الإلتفافية . وبمعنى أدق فإن العودة إلى حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 غير واردة .
إلا أن الأخطر في السياسات الأميركية قد تمثل في إلغاء حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين المنفيين إلى بلاد الشتات . صحيح أن إسرائيل منذ بداية النكبة الفلسطينية تنكر هذا الحق على أصحابه الشرعيين الذين هجرتهم إلى الشتات وما يزالون هناك قابعين ، إلا أن أخطر ما في الأمر هو هذا الدعم اللامحدود من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي أعطى رئيسها الحالي وعده بالغاء هذا الحق ، وهذا من منظوري السياستين الإسرائيلية والأميركية يعني " توطين " اللاجئين الفلسطينيين حيث هم متواجدون .
وأما ما يخص القدس فان البرنامج الإستيطاني التهويدي الخاص بها قد أوشك على الإنتهاء فور إكمال بناء مستوطنة جديدة هدفها إقامة تواصل بين مستوطنة معاليه أدوميم المقامة على أراضي الخان الأحمر المقدسية وبين مدينة القدس ، وبذا فإن إسرائيل سوف تطبق على هذه المدينة ، وتفصلها عن أراضي الضفة الفلسطينية ، إضافة الى أنها بهذا المخطط سوف تفصل شمال الضفة عن جنوبها . ونذكر هنا بأن الكونغرس الأميركي ، قد منح نفسه الحق بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل .
إن الحديث عن سياسات الرئيس الأميركي تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته ذو شجون وأشجان . إن أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها سياسات خداع ، وفقاعات في الهواء . فبعد ثماني سنوات من ولايتيه الأولى والثانية ، يجد الشعب الفلسطيني نفسه صفر اليدين . أرضه تقضم شيئا فشيئا . الإستيطان يتفشى فيها ويلونها جغرافيا وديموغرافيا بألوان التهويد .
لقد تعرض الشعب الفلسطيني ، ولم يكن يجهل ذلك ، إلى عملية خداع كبيرة يوم بشر الرئيس الأميركي الحالي برؤيته حول الدولة الفلسطينية . وها قد مضت ثماني سنوات على هذه البشرى ، إلا أن رؤيته ما زالت نطفة في رحم الغيب السياسي . إنها وبعد ثماني سنوات لم تحظ لا بتعريف لها ، ولا بتحديد معالم لوجودها . إنها مجرد دولة هلامية في خياله الذي لم يشأ لها منذ البداية أن ترى النور . وأغلب الظن أنه حملها معه ، وأقلع بها .
لقد حاول الرئيس الأميركي أن يقنع الفلسطينيين أنه غير منحاز ، ولا يكيل بأكثر من مكيال . إلا أنه فشل ، كونه أصر عامدا متعمدا على عدم الإعتراف بمجمل المشهد الفلسطيني المأساوي . لقد أغمض عينيه ، وتجاهل الإحتلال الإسرائيلي ، وشرعن الإستيطان ، وغض النظر عن كل الممارسات التهويدية للقدس ، وأنكر حق العودة ، وغير ذلك الكثير الكثير . والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بإلحاح : أين هو التوازن في سياسته ؟ . أين هي العدالة في الكيل والميزان ؟ .
ولنعد إلى المشهد الآخر للصورة . إنها صورة النكبة الفلسطينية بكل ما أفرزته من تداعيات مأساوية كارثية . وها هو شعبها يحيي ذكراها السنوية الستين ، ويدخل بها عامها الواحد والستين . إنها صورة النكبة التي ظن الكثيرون أها ستدفن في غياهب النسيان ، ويطمرها غبار الأيام . إلا أنها ما زالت جمرا تحت الماد .
كلمة أخيرة . لم يتوقع الشعب الفلسطيني من الرئيس الأميركي أكث مما حصده جراء سياساته المنحازة للطرف الإسرائيلي من تهم العنف والإرهاب التي ألصقها دون مبرر ظلما وعدوانا وبغير حق بنضالاته المشروعة ضد الإحتلال الإسرائيلي . وبرغم هذا الجحود والنكران للحق الفلسطيني بأرضه ووطنه ، فما دامت النكبة قائمة ، فإن القضية الفلسطينية باقية ، ولن تموت مهما طال الزمن ، وإن غدا لناظره قريب .