نحن هذه الأيام مع العدد السنوي ستين على اغتصاب فلسطين العربية، وإقامة كيان صهيوني تفريغي إحلالي معتد ٍ كمشروع مركز متقدم تكون مهمته الأساسية ضمان مصالح الاستعمارالكولونيالي، فالامبرطورية الامبريالية تاليا في وسط ومركز العالم ،المكتنز بالإمكانات والثروات الاستراتيجية المتعاظمة، وذلك تحت اسم ذي دلالة - «إسرائيل » - يغطي مجموعة الأسانيد غير العلمية ولا القانونية ولا التاريخية ولا الأخلاقية وبالتالي غير الشرعية، في ذات الوقت الذي تم فيه تنفيذ أشهر وأضخم جريمة إنسانية وقانونية وأخلاقية في التاريخ ، تحت اسم آخر تحاول دلالته المخففة تغطية آثار الجريمة المزدوجة التي تم اقترافها، ألا وهو اسم «النكبة».!
هذا الاشتقاق الذي يقود إلى فضاءات لغوية متعددة تذهب بين هامش أثر العوامل الطبيعية وغضبها، - الزلازل والبراكين والأعاصير- ، وبين نواتج الخلافات والصراعات والنزاعات المحلية – حروب أهلية، نزاعات داخلية- وصولا إلى نواتج ممكنة أيضا لعامل خارجي عنيف – العدوان والغزو والحروب- ، ليس في واقع الأمر هو التعبير الحقيقي والأصوب في الرواية الفلسطينية والذي كان يجب أن يبقى دوماً هو التسمية الفلسطينية الوحيدة حاملة ملامح هذه الجريمة وبصماتها، ليس فقط للاحتفاظ بكل زخم منشطات التحفيزفي إبقائها ماثلة للأجيال ، بل ومن أجل إبقاء الضغط المعنوي في محتوى هذه الجريمة على مقترفيها أيضا عبر الأجيال، هذه التسمية هي « اغتصاب فلسطين ».
كان « اغتصاب فلسطين» منذ بداية المؤامرة لتنفيذه نقطة التقاء موازيين قوى دولية محددة، وكانت الفصول التالية على هذا « الاغتصاب »أيضا خاضعة لمجموعة من الموازيين دولية التي ربما قد تبدّلت في بعض الفترات، لكنها في نهاية الأمر لم تستطع أن تكون لا مقصلة لتغييب هذه الجريمة الدولية، ولا هي كانت رافعة لتحقيق أي نوع من التسوية السياسية العادلة والتي تحفظ الحد الأدنى من الحقوق السياسية والقانونية والإنسانية العادلة للشعب العربي الفلسطيني في ترابه الوطني التاريخي، وإذا كانت أهم عوامل كفِّ شفرة هذه المقصلة هي قدرة الشعب العربي الفلسطيني على متابعة نضالاته الوطنية ، وتقديم تضحياته العظيمة، وتجديد وابتكار مسارات حيويته وتعبيراته الرافضة للتغييب والاندثار، واجتراح المعجزات لعكس اتجاه المؤشر التآمري، فإن أهم عوامل كفّ قدرة الرافعة لتحقيق التسوية السياسية هي استمرار الدور الاغتصابي للكيان وقدرته على انتزاع مراهنات بعض القوى المؤثرة في هذه الموازيين الدولية، على مجموعة خدماته الاستراتيجية الممكنة في ظل غياب كف الترجيح العربي القومي، إن عبر الترغيب أو الترهيب لهذه القوى الدولية.
والواضح أن السنوات التي شهدت أحادية القطب الدولي متمثلة في ثقل الولايات المتحدة الأمريكية، لم تنتج ولم تسفر عن أكثر من وعود فارغة المضمون في تحقيق التسوية الدولية المرغوبة منذ بداية تشكيل الامبراطورية وحتى عهد قريب، بيد أن السياسات الحمقاء وقصيرة النظر التي اتبعتها الإدارة الجمهورية الأمريكية بقيادة بوش الصغير، والتي نتج عنها التسخين والغليان المنفلت في المنطقة برمتها، في محاولة مطاردة فكرة القدرة على « إعادة التركيب» في المنطقة تحت شعارات الفوضى الخلاقة وغيرها من البرامج النظرية الفاقعة ، تحت هوس التقابل البصري في مسألة « سقوط الدومينو »، أدت إلى شلل هذه الرافعة نهائيا وفقدان اللحظة التاريخية المناسبة، وضياع فرصة كانت ستكون الأمثل والأغلى بالنسبة إلى الكيان الصهيوني نفسه في الحصول على أهم قيمة استراتيجية له في هذه المنطقة من بوابة عملية سلام، والواضح أن اندفاعات هذه الإدارة تحت وهم قدرة « القوة المفرطة» أدى إلى تخلخل واضح في الميزان الدولي الاستراتيجي لا يمكن إغفاله.
ملخص أهم الدراسات الاستراتيجية الحالية في أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي هذه الأيام تقول بنهاية عصر « القطب الأوحد» - Uni Pole، وثمة مؤشرات قوية تؤكد دخول العالم اعتبارا من بدايات العقد القادم إلى مرحلة جديدة السمات لم تكن متوقعة وهي مرحلة « اللا قطبية»، ففي الوقت الذي كانت هذه الدراسات فقط قبل عدة سنوات تشير إلى إمكانية دخول العالم قريبا إلى عصر « تعدد القطبية» متكئة على التغييرات وإرهاصاتها في أقصى الشرق الصيني ، والشمال الروسي، والجنوب اللاتيني في البرازيل تحديدا، والكتلة الهندية الناشطة، انزاحت فجأة هذه الدراسات لتعمل تحت ضغط العوامل الاقتصادية والجيواستراتيجية إلى التنبؤ بل وإمكانية الزعم بقرب تخليق هذه المنظومة الجديدة الدولية، والتي ستكون في واقع الأمر مميزة بكل المقاييس، حيث لن تبقى مثلا صورة مجلس الأمن في السياسة الدولية على حالها، كما لن تظل اتجاهات الاقتصاد الدولي وماكناته النشطة على ذات المؤشرات، وبالقطع فإن هنالك انكماشات وتبدلات سوف تجري في مناطق النزاع الاستراتيجي في العالم وأهمها المنطقة العربية تحديدا.
بعض هؤلاء أشار مؤخرا إلى عدة إشارات خفية ولكنها هامة على كل حال، فمنذ استطاع القيصر بوتين إعادة الاقتصاد الروسي وماكنة الدولة الروسية إلى العمل بكفاءة لافتة، بدأت الإرادة الروسية في فرض الشروط الجديدة على أوروبا ذاتها، وتعطيل عمل سرعة انتشار الناتو لم يكن هو أول هذه الشروط الجديدة وبالقطع لن يكون آخرها، مؤخرا أصرَّ القيصر على إجراء العرض العسكري في ساحة الكرملين بعد غياب ثمانية عشر عاما متواصلة، بل أصرَّ أيضا أن يتم استعراض منظومة الأسلحة الاستراتيجية الروسية التي جرى اضافتها للأسطول الروسي مؤخرا، وفي المستوعب الصيني لم ترضخ الصين بتاتا لكل الضغوط الخفية التي حاولت فيها إدارة بوش دفع الحكومة الصينية لوضع حد لتنين عملتها الوطنية الآخذ في الانتفاض، كما لم تخضع لمحاولة فرض شروط تجارية جديدة في هذا المجال رغم الإثارات التي حاولتها إدارة بوش من خلال اختلاق أزمة الشعلة الدولية، وأزمة العمال الصينيين والشركات الصينية العاملة في أفريقيا مؤخرا.
هنالك عدة مؤشرات لا تنتهي في هذا المجال، والمسألة في انهيار منظومة الوهم الامبراطوري الأمريكي مسألة وقت، وستتبدى تعبيرات هذا الانهيارفي أكثر من موضع وفي مقدمتها : العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، والسؤال الاستراتيجي اليوم بالنسبة للقضية الفلسطينية في ذكرى « اغتصاب فلسطين » هو كيف يجب أن تشتغل الاستراتيجية الفلسطينية على وقع التبدلات الدولية القادمة؟
إن الجواب البديهي يفترض أولا التوقف والإقلاع عن مرحلة التوهمات والجري العبثي خلف إدارة بوش ووعودها الخالية من أي مضمون، ويفترض أيضا وضع حد فوري لاستنزاف المراحل التي تقوم بها أجهزة وأذرع الكيان الصهيوني عبر بوابة « المفاوضات العبثية »، والارتهان لألاعيب السياسة الداخلية الصهيونية، وهو يفترض في ذات الوقت العمل الفوري على إعادة ترسيخ الوحدة الوطنية على قاعدة خيارات تبني استراتيجية وطنية فلسطينية جديدة، تلحظ اعتماد رفع السقوف السياسية فورا عن مسألة حل الدولتين على حدود ما قبل عدوان العام 1967،بوالتي أصبح من الواضح أن العدو الصهيوني وفق مجموعة ممارساته على الأرض قد جعلها غير قابلة للتحقق نهائيا ضمن منظومة الشلل القائمة، ولا شك أن هذا الرفع المبكر في وجه التوازنات المقبلة بحيث تكون الحدود الدنيا هي تطبيق قرار التقسيم الدولي الذي هو أساس ما يقره القانون الدولي مع الاصرار على تنفيذ « العودة الفلسطينية» الكاملة مع التعويض وصيانة بقية الحقوق الوطنية والشرعية والقانونية للشعب العربي الفلسطيني، هي الخيار الأصوب في ضوء ما ستحمله المرحلة القادمة من إمكانيات أعلى للحركة.
إن الدعوة للحوار الفوري وآخرها التي جاءت على لسان المناضل الرفيق أحمد سعدات من قاعة المحكمة الصهيونية مؤخرا، ليست فقط دعوة محقة وصحيحة بل هي حتى دون المطلوب هذه الأيام، فمن المعيب أن تكون البديهيات السياسية قد أصبحت بحاجة لتذكير واستذكار خاصة مع يقين الحصيلة السرابية في البيدر الفلسطيني المنتظر لزيارة بوش الصغير ، وهو القادم للاحتفاء بشعار مرحلة حكمه العدواني في مسألة « يهودية الكيان» والمقاعد الخاصة التي وفرتها سياسته لتغولات الكيان الصهيوني حتى على ما أسماه برؤيته للحل السياسي تحت ضغط المقاومة الفلسطينية وصمود الشعب الفلسطيني، ولا شك أن الدعوة لاستعادة البدائل والخيارات وفي مقدمتها « الكفاح المسلح » وكل صيغ « المقاومة الوطنية » هي أيضا مهمات ملحة ولكنها ليست كافية أيضا دون ضوابط وآلية عمل جديدة ومفيدة، فالمطلوب إذن هو صياغة فورية لوحدة وطنية فلسطينية على قاعدة صياغة استراتيجية وطنية فلسطينية جديدة، وصياغة فورية في ذات الوقت لمؤسسات تنفيذ هذه الاستراتيجية ، وإعادة وصل نقاط القوة الفلسطينية بإطلاق الطاقات الكامنة والمهملة في كل أماكن تواجد هذا الشعب العظيم، غير ذلك فإن مجموع القوى السياسية الفلسطينية سيتحمل خطيئة عدم قراءة المستقبل القريب وتأمين استغلال ظروف ممكنة لتنشيط عمل الرافعة الدولية الجديدة في انتزاع الحل والتسوية السياسية العادلة للشعب الفلسطيني، أو في فرض موقع جديد لكفاحية هذه القضية على طريق تحقيق انتصارها العادل ضد المشروع الصهيوني المغتصب، لكن قبل ذلك كله لا بد من إطلاق رصاصة الرحمة على عملية سلام بوش الصغير ومهلته المنتهية ليس في بواكير العام 2009 ولكن في أيار العام 2008.