مهما طال الزمن ، لا بد أن يأتي يوم ، يحاسب فيه كل إنسان على ما اقترفته يداه من أفعال . وهذا يصح على الذين نالوا من حقوق الناس ، وارتكبوا بحقهم أفظع الجرائم النكراء . إلا أن حديثنا هنا عن فئة من الناس ، قدر لهم أن يتولوا أمور شعوبهم ، وأن يقودوها إلى الهلاك ، وأن لا يتعظوا ، مهما كانت النتائج وخيمة عليهم وعلى من هم في حماهم . إنهم باختصار شديد أناس قدت قلوبهم من الصخر ، أو هي أشد قسوة . إنهم أنانيون لا يفكرون إلا بأنفسهم ، ومصالحهم الضيقة ، وتطلعاتهم المحدودة . ومهما ارتكبوا من أعمال منافية لكل الشرائع السماوية والأرضية ، فلن يردعهم رادع ، ويحول دون مراميهم مانع . وهل رادوفان كراديتش ، ومن سبقوه إلى محكمة الجنايات الدولية ، إلا واحد منهم ، بل هو كبيرهم الذي أغواهم وأعماهم وأضلهم سواء السبيل .
لقد اقتيد الرجل إلى حيث ينبغي له أن يكون . مثل أمام المحقق الدولي التابع للأمم المتحدة في لاهاي المدينة الهولاندية . وفي جلسة اتسمت بالجدية ، وجه له هذا المحقق إحدى عشرة تهمة ، فصلها على النحو التالي . إثنتين بتهم تتعلقان بالإبادة الجماعية ، والتطهير العرقي ، وتسع تهم أخرى تتعلقان بجرائم الحرب .
لقد خبت النيران على أرض البوسنه والهرسك وكرواتيا ، و في سمائها ، ولكن ما زالت نيران أخرى تتأجج في الصدور والضمائر والمشاعر الإنسانية ، يبدو أنها هذه المرة سوف تستغرق زمنا طويلا حتى يخبو أوارها ويستكين ضرامها ، لعل برد السلام والطمأنينة يهب مرة أخرى على أولئك الذين شردوا ذات يوم ، وهم كثر لا يعدون . ويوم عادوا وجدوا كل شيء خرابا زيبابا .
وفي حين ان طبول الحرب قد صمتت وهدأ ضجيجها ، فإن أجراس الإنتصار لم تقرع بعد ، ذلك أن ما خلفته الحرب في البوسنه والهرسك وكرواتيا ، يخرج عن كونه خاضعا لمعايير الإنتصار الذي أعقب خروج القوات الصربية من هذه المناطق البائسة المثخنة بالجراحات الدامية .
إن الذي خلفته هذه القوات العسكرية وشبه العسكرية التي تأتمر مباشرة بأوامر كبار ساسة النظام الصربي الحاكم وعلى رأسهم رئيس الدولة آنذاك رادوفان كراديتش ، وبطانتاه السياسية والعسكرية من آثار الإبادة الجماعية والإعدامات بدم بارد ، وأعمال الحرق والتدمير والتطهير العرقي والإغتصاب ، أمور تدق عن الوصف ، ويقف الإنسان أمامها مذهولا .
وناهيك عن المقابر الجماعية ، والجثث المتفحمة ، والمنازل المهدمة التي قدمت طعاما للنيران ، بالرغم من أن عمليات الكشف ما زالت في أولها وعلى الأرجح أن ما تخبئه الأيام قد يكون أكبر من ذلك بكثير، وأخطر وأكثر إيلاما للنفس البشرية ، وهي ما زالت مصلوبة مذهولة أمام شاشات التلفزة . تشهد فصلا آخر خاصا من فصول إرهاب الدولة والجريمة المنظمة جراء تسرطن المشاعر القومية التي عصفت بها آفة العنصرية والأنانية وأبشع أشكال السادية .
وليس لكونهم تربطنا بهم روابط العقيدة والتاريخ فحسب ، أحسسنا بأحزانهم وانبرينا للوقوف إلى جانبهم بما سمحت ظروفنا لنا به . فلو كانوا غير مسلمين فنحن لا نقر ونرفض أن يتعرض الإنسان أيا كان عرقه ومذهبه وعقيدته ولونه ولغته إلى مثل ما تعرض له هؤلاء المساكين من عنف وإرهاب وقسوة واقتلاع من الأرض وتصفية جسدية وثقافية .
ونحن الفلسطينيين الذين قد ذقنا الأمرين وما زلنا ، نتفهم أكثر من غيرنا المعاني والأبعاد الكامنة وراء تهجير الشعوب من أوطانها وديارها ومنازلها وتشريدها إلى ما وراء حدود هذه الأوطان ، إلى جغرافيا المنافي والشتات والضياع والإنسلاخ عن الحياة البشرية ، ونشعر بكل صدق أن نكبة البوسنة والهرسك وتحديدا ما جرى في بريستينستا ، هي توأم نكبة فلسطين أرضا وشعبا وتراثا ومقدسات .
لقد ارتكبت القيادة الصربية السياسية في حينها ، مدعومة بقيادتها العسكرية جرائم بشعة ، ليس لها نظير في التاريخ الإنساني بحق الإنسانية ، تمثلت باعتدائها غير المبرر على مسلمي البوسنه والهرسك وكرواتيا . وإذا كنا قد ركزنا ومعنا كل وسائل الإعلام العالمية على جريمتها النكراء ، وعرف حتى الآن منها موجزها وخطوطها الرئيسة ، والبحث جار للكشف عن تفاصيلها التي بدأ العقل البشري يتخيلها ويضع لها توقعات واحتمالات وأرقاما .
قلة من الناس هم الذين كانوا يتخيلون أن ياتي اليوم الذي يتهاوى فيه عرش الطاغية الصربي رادوفان كراديتش وتطاله يد العدالة . وإذا كان الكثير من الناس قد تمنوا أن يأتي هذا اليوم الذي أصبح بالفعل حقيقة ، إلا أن الذي لم يكن يتصوره أحد ولم يخطر في البال هو رؤية رئيس الكيان الصربي في حينه ، والذي كان متواريا عن الأنظار ، خشية أن تطاله يد العدالة مكبلا ، ويمثل أمام القضاء . وكمدخل لهذا الحديث فليس ثمة إنسان يتحلى بالقيم الإنسانية الحقة لم يبد ارتياحه للمصير الذي آل اليه هذا الطاغية ومن سبقه من أبناء جلدته ، أو من سوف يلحقون به .
وإحقاقا للحق فإن الحديث عن هذا الرجل لا ينبغى أن يتناول الجانب الوحيد الذي بموجبه يمثل أمام القضاء الدولي والمتمثل بارتكابة جرائم ضد الإنسانية على خلفيات عرقية وعنصرية ودينية . إذ أن هناك جانبا آخر لا ينبغي إغفاله ، ويتمثل في إدراك هذا الرجل أن هناك قوى هيمنة أوروبية وأمريكية سياسية وعسكرية واقتصادية ، تحداها وتصدى لها ووقف في وجهها ، وجراء ذلك حقدت عليه ، وظلت تكيد له حتى أوقعته في مصيدتها وقدمته للعدالة الدولية .
وفي هذا السياق لا بد لنا من الوقوف عند ما حدث في كثير من الأقطار الأخرى والتي شهدت مجازر ومذابح وحشية ارتكبت ضد الإنسانية . ومثالا لا حصرا ، بروندي ، الشيشان ، تشيلي ، الكونجو ، ساحل العاج ، وسيراليون ، وميانمار ، ونخص بالذكر هنا فيتنام ، حيث ذبح الملايين من البشر على مسمع ومرأى من الكثيرين . فماذا فعل الضمير الأوروبي الأمريكي الذي التزم الصمت اللامبالي والمريب حيال المجازر التي ارتكبت هنا . لكن الحقيقة المرة تجيب بأن المصالح هنا تختلف .
وفي هذا الصدد فإن موضوع منظومة حقوق الإنسان التي يدافع عنها الغرب والولايات المتحدة ، يتم تسويقها على أنها إنسانية وحضارية واستراتيجية على طريق تحرر الإنسان من الكثير من تبعات الممارسات العرقية والعنصرية والأيديولوجية . إلا أن توجهات هذه الدول لا تجيء في كثير من الأحيان ابتغاء وجه الحق والعدالة والإنسانية . فهي انتقائية إزدواجية المعايير وتكيل بأكثر من مكيال ، وتنطلق من مصالح ورؤى غربية التوجه والمعتنق . وهي لا تاخذ بعين الإعتبار نظيراتها لدى الشعوب الأخرى ، بل إنها تنظر إليها بفوقية وتعال وحق مكتسب في التنظير .
إن هذه الدول الغربية ، وبخاصة تلك التي كانت لها إمبراطوريات إستعمارية في السابق ، لا يخلو سجلها التاريخي الإستعماري من انتهاكات خطيرة بحق الشعوب التي استعمرتها . فهناك شعوب أبادها الإستعمار عن بكرة أبيها . وهناك أخرى ارتكب في حقها مجازر رهيبة ما تزال ماثلة في ذاكرة أبنائها . وثالثة حوربت بكل شراسة وقسوة ، وقمعت كي لا تفكر في تحررها وحريتها وسيادتها . ورابعة سلبت منها أوطانها وأصبحت بدونها .
وأخيرا لا آخرا ، إن استقراء بسيطا لكثير من الحروب والنزاعات الإقليمية بعد الحبين العالميتين الأولى والثانية ، التي حصدت وأزهقت أرواح الملايين وما زالت حتى أيامنا هذه ، يستشف منها أنها خلافات حدودية زرعها الإستعمار عامدا متعمدا على خلفية نعرات عرقية وطائفية ودينية حتى تظل له عوامل الغلبة والسيادة والتفوق والهيمنة .
وخلاصة القول ان الذين يقفون وراء محاكمة رادوفان كراديتش ، والمقصود هنا ليست هئية المحكمة الدولية للجنايات ، ليسوا أنقى ضميرا ولا أطهر يدا أو قلبا منه . وإن الإنسانية المعذبة التي أصيبت في صميمها ، كان بالإمكان أن تشعر أن الحق والعدالة قد أخذا مجراهما لو أن أمثال هذا الطاغية وهم كثر قد وقفوا إلى جانبه في قفص إلاتهام لكي يحاكموا كما يحاكم ، وإن كان القصاص سوف ينالهم بحق ما اقترفته أيديهم ، عاجلا أم آجلا .
وستكون سعادة هذه الإنسانية لا حدود لها ، لو أن المعايير واحدة ويجري تطبيقها على الجميع دون ازدواجية أو تستر على أحد ، أو لو أنها كانت ابتغاء وجه العدالة وخالصة مخلصة لها . ونحن في فلسطين لنا ما نقوله في هذا الصدد وهو كثير ومثير . والشعب الفلسطيني له صرخة عالية مدوية يرسلها لعل آذان العدالة تشفى من الوقر ، وعيونها لا يعود يغشاها العوار .