Imageبإرادة وعزم وتصميم ، تمكنت سفينتا الحصار " غزة الحرة ، والحرية " من الوصول إلى غايتهما ، وهي غزة المحاصرة ، بغية كسر الحصار المفروض على قطاعها منذ ما ينوف عن خمسة عشر شهرا 15 ، أو على الأقل كسر بعض ما أتى به الحصار من ويلات ومصائب وكوارث . وقد استقبلت هاتان السفينتان بالود والترحاب ، والعناق ونشر أكاليل الزهور .

  وأخيرا تحركت وبعد وقت طويل مساحة من الضمير الإنساني . وقد ظهر ذلك من خلال التعبير القوي الحازم الذي لا يدانيه أدنى شك ، عن الإرادة الإنسانية إلى فك الحصار عن أولئك المحرومين والمحاصرين في القطاع . إنه كان ولا يزال حصارا على مسمع الدنيا ومرآها . لقد كان حصارا من مؤسسات دولية ولا دولية ، حكومية ومدنية . إن الذين بدأوا هذا التحرك يستحقون كل تقدير في المعنى والمبنى . ويستحقون أن تتوج رؤوسهم بأكليل الزهور .

      ليس المهم فيما سوف تقدمه هاتان السفينتان من مواد عينية وأدوية ولعب أطفال هي رمزية في حد ذاتها ، إنما الهدف المعلن هو كسر الحصار الظالم الذي قض مضاجع الغزيين القابعين تحته ، بتحدي هذا العالم الكبير الذي أغمض عينيه عن مأساة مليون ونصف من المواطنين الفلسطينيين ، وفي مقدمتهم هذا العالم العربي ، وهذا العالم الإسلامي .

      وكم كانت الصيحات تقرع أبواب الحكام ، وهم غير آبهين بما يدور حولهم . لقد كانت هذه الصيحات تذهب أدراج الرياح هباء منثورا . فلا جامعة الدول العربية ، بأمينها العام الذي وعد ذات مرة أنه سوف يكسر هذا الحصار ، ولا بكل مركباتها وتفاصيلها الأخرى كانت على استعداد لكسر هذا الحصار على أرض غزة .

      لقد نام العرب الذين كانوا ، ورحم الله ما كانوا عليه من خلق وضمير ، تصيبهم الحمية والشهامة والمروءة قبل عشرات السنين . أما اليوم فكل في طريق ، وكل في سبيل ، لا يفكر إلا في نفسه . وكيف لا ؟ ، ورغيف الخبز أصبح غاية قصوى ، وأما تحصيل الدواء فهو الآخر صار هدفا ، إذا ما تم تحصيله .

      لقد كانت صيحات الإختناق والإحتراق تتكسر عند أولئك القابعين في أبراجهم الإسمنتية ، التي أصبحت رمزا لهذه المرحلة الحالية من تاريخ العروبة ، وكأن العروبة ينقصها هذا التطاول في البنيان . وكأن هذا التطاول سوف يجلب لهم الخير العميم والكرامة والمجد ، وسوف يجعلهم في مقدمة الأمم . إنها العولمة التي افترست كل شيء بما فيها أموال العرب .

      لقد كشف تقرير لمكتب الأمم المتحدة يعنى بالشؤون الإنسانية ، أن جيش الإحتلال الإسرائيلي ، قد قام في خلال أسبوع واحد بسبع وتسعين 97 عملية اقتحام . وقد أتبعها بتسع وخمسين 59 عملية اعتقال أسفرت عن مئات المعتقلين . ثم إنه أردفها بثلاثين 30 عملية تدمير . وهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة . إنها مكررة تكرارا خطيرا لا يحتمله كائن من كان .

      لكنها العروبة الآخذة في التراجع إلى حيث لم يعد لها ذكر في الأجندات السياسية العربية إلا ما ندر . وهنا ينبغي علينا أن نفرق ما بين مجموعة من وسائل الإعلام العربية بقيت مخلصة للقضية الفلسطينية ، تشكلت من بضع جرائد عربية تصدر هنا وهناك ، ما زالت تتابع أخبار ما يدور في الساحة الفلسطينية ، أضيف لها بضعة يسيرة من محطات التلفزة العربية .

      ولست هنا لكي أتناول كل المؤثرات التي جعلت من هذه القضية الفلسطينية أمرا مستعصيا على الحل . إنه العام الحادي والستون يدخل على العالم العربي ، وليس في يده ما يدل على أنه استقى العبرة من كل ما يدور في الساحة الفلسطينية . لم يجد أي حل لقضية اللاجئين ، ولا الإستيطان الذي افترس الأرض الفلسطينية ، فعمرها وغمرها شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا . ولن أتناول كل معطيات الجدار العازل بألوانه القاتمة ، ولا تهويد القدس الذي أصبح هو الشر كله وكأن الأمر لا بد منه .

      وإذا ما أضفنا إلى هذا وذاك ، كل الحالات الإحتلالية الأخرى التي ما زال الإحتلال الإسرائيلي يمارسها ، فهو ما زال يمارس جنون الإجتياحات والإعتقالات والإغتيالات والأطواق والحصارات والحواجز الأمنية الخانقة . وهو لم ينقطع عن عن اغتصاب الهواء والماء والثروات المعدنية . ولا كل ما يخص العالم العربي من طاقة تحرك مقدراته فتحكم فيها .

      إلا أن الأنكى من هذا كله أن هذا العدد الكبير من الإغتيالات والأسرى الفلسطينيين ، لم يعد يحرك ساكنا في ضمير هذه الأمة العربية . فتحجرت أحاسيسها ، وتبلدت ، وقست ، وماتت مشاعرها . وها هو الشعب الفلسطيني في كل من غزة ، والضفة محاصر حصارا لا انفكاك له . ها هو يعاني ما يعانيه من فقر وحرمان . وها هو يمد يديه إلى كل من يتصدق عليه ، فيعطيه ، أو هو لا يعطيه .

      وبرغم الإمكانيات الهائلة للعالم العربي وبخاصة المادية منها ، مضافا إليها الكفاءات البشرية المتخصصة في مجالات شتى لها صلة بالسياسة والإقتصاد ، وبرغم وجود جامعة الدول العربية التي يفترض بها أن توحد الصوت العربي وأن توجه مساراته إلى حيث ينبغي أن يكون عاليا ومسموعا ومؤثرا ومفهوما .

      الا أن هذا ظل افتراضا لا مكان له على أرض الواقع العربي الذي عانى من غياب جبهة إعلامية قادرة على التحرك خدمة للقضايا العربية ، ودفاعا عنها وتصديا لاجتياحات إعلامية آتية من وراء حدود العالم العربي ، تستهدف النيل منه على كل الصعد ، وتركيعه على طريق موجة جديدة من أحدث أشكال الإستعمار والإستغلال والتحكم والهيمنة في إطار عولمة تستهدف اقتلاع العرب والمسلمين من جذورهم الثقافية والحضارية .

      وحقيقة الأمر إن الأنظمة العربية الحالية ليست مؤهلة " للعمل العربي " القومي كونها نشأت أساسا في إطار حدودها السياسية المنغلقة على ذاتها ، وهي والحال هذه دول أجسادها تنتمي إلى العصر ، وأما أرواحها فتنتمي إلى العشيرة التي تدين بالولاء لعقر دارها وشيخها ليس إلا . وثمة سبب آخر كون دول هذه الأنظمة غير متجانسة تربويا وثقافيا واقتصاديا ، وثمة اختلافات في التركيبة الديموغرافية للسكان من حيث العدد والتعددية المذهبية والعرقية والطائفية ، الى جانب التباين في درجة الإحساس القومي .

      إن غالبية الأنظمة العربية - إن لم تكن كلها - تهيمن عليها روح القبلية والعائلية والإنتماء إلى الجغرافيا الضيقة جدا ، أو الهروب إلى تاريخ غير عربي ولا إسلامي ، يمنحها على حد ادعائها ما تفتقر إليه في الواقع من رقي حضاري . وإذا كانت هذه الأنظمة قد تطورت ظاهريا ، أو لنقل إنها وجدت نفسها أمام طفرة فجائية من استخدام أساليب حضارية استهلاكية تحت ظلال تنمية تظاهرية .

      كلمة أخيرة . إن مفهوم العروبة لم ينضج بعد ولم ينتقل من مرحلة وحدة اللغة إلى وحدة الهدف والصف والمصير ، ومن الخاص إلى العام ومن الأنا إلى نحن ، ومن الجزء إلى الكل وهي الأهم والأخطر . والأنظمة العربية سادرة عن قصد في الإبتعاد عن هذه المركبات الأساسية التي يفترض أن تزود العروبة بالطاقة التي تفتقر إليها جراء النزيف المستمر الناجم عن السياسات العربية الفردية .

      وتفتح هذه القضية ملف السياسة العربية تجاه القضية الفلسطينية ، والذي لم يزل يتمثل  في الإعتداءات الإسرائيلية على كافة الصعد بمشاركة ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية وصمت من قبل الإتحاد الأوروبي ، ولامبالاة على صعيد المجتمع الدولي . وما هذا الذي نراه إلا ردة فعل عربية ، والمحصلة كانت المزيد من المعاناة الفلسطينية التي لم يسبق للشعب الفلسطيني أن عرف مثيلا لها .

      وهكذا فإن انتظار بارقة أمل تأتي من هنا أو هناك ، وأقصد هاتين السفينتين غزة الحرة والحرية ، تشكلان في ظل هذه الهجمة الشرسة من قبل الأنظمة العربية والإسلامية ، ومن ثم الجهات الغربية ، تحديا سافرا لكل المخططات التي تستهدف هذا النيل من صمود هذه الجماهير . إنها خطوة إلى الأمام ، ولعلها تكبر وتكبر ، عساها تصبح هي الحقيقة . وعساها تكون الأمل والرجاء للمحرومين والمظلومين .
 

 

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية