في عقدي الخمسينات والستينات اخذت الشعوب العربية توثق عرى اتصالها بحضارات وثقافات الأمم المختلفة وتسارعت عجلة السفر والارتحال الى ديار الغرب، وكان من ذلك ان راجت كتيبات تعليم المصطافين والمسافرين القواعد الاساسية للغات الاوروبية من قبيل (تعلم الانكليزية في خمسة ايام بلا معلّم) وما زالت تلك المطبوعات تحظى بالذيوع والانتشار حتى يومنا هذا, لكن لم يكن من المتصور حقا ان تصبح النظريات السياسية ذات الجذور الفلسفية العميقة الممتدة في الفكر الانساني لقرون وقرون قابلة للاستيعاب والهضم في دقائق معدودة، غير ان هذا ما حدث ويحدث بالفعل هذه الايام بالنسبة لأنصار المذهب الليبرالي في الكويت! لقد أضحى متاحا لكل فرد ان ينتحل ذلك المذهب دون ان يتعرف على تاريخ نشأته منذ القرن السابع عشر، او قراءة خلاصة كتب دهاقنته من امثال جون لوك وجان جاك روسو وجون ستورات مل، وهو بالطبع في غنى عن ان يصدّع دماغه بالتعرف الى الاطوار التي مر بها من طور الكلاسيكية المحافظة الى الليبرالية الجديدة، ولا بالتوفيق بين المشكل الخطير الذي يواجهه في هضم فكرة الديموقراطية التي ترجح حكم الاغلبية بما لا يتوافق مع الخصوصية الفردية التي تمثل روح الليبرالية واصلها الاصيل، فالديموقراطية هي التي اصدرت حكمها على سقراط (الفرد) بالإعدام! ولا حاجة به الى اضاعة شيء من وقته الثمين في فحص تلك القضايا، لأنها ستصطبغ ـ كما هو الحال بالنسبة لجل الامور في بلادنا ـ بروح اللامبالاة وعدم الاكتراث فلا مكان للتحقيق او التدقيق!
الفكرة باختصار وجيز يشهد به الواقع المعيش وتلوح سطوره على صفحات الأيام: ان الانتساب لليبرالية لا يتطلب من المنتسب سوى ان يكون معارضا لأي مشروع اسلامي، فإذا هاجم الإسلاميون مثلا حفلات «السوبر ستار» فعليك ان تتحول الى متعهد حفلات لتغيظهم حتى النخاع، ومن ثم ستجد نفسك بعد فترة قصيرة وقد رُسمت ليبراليا معتّقا تملك بفضل الذوق والخبرة لا القراءة والدرس ملكة التنظير والتسطير، كما سترى في النموذجين التاليين اللذين يشهدان بصحة ما زعمت:
ـ اما الأول فزعيم سياسي منظر كتب مقالا ايام الانتخابات الفائتة اصدر فيه حكما عجيبا غريبا ينبئك عن مستوى التنظير الليبرالي عندنا، فمما احتوى عليه ذلكم المقال (التحفة) شهادة سطرها الاستاذ المنظر فحواها ان معظم من يرتكبون المخالفات المرورية ويكسرون قواعد الذوق والاخلاق على الطرقات هم الملتحون ـ او على حد تعبيره الغريب: من يعتمرون اللحى! ـ والمنقبات، ولئن كانت وجوه الاتفاق بيني وبين المذكور محدودة جدا فإن ابرزها يتمثل في كوننا (نعتمر) النظارات، وهذا مما يجعل قبول شهادتنا برؤية هلال رمضان محل نظر أولا ادري كيف تمكن بنظارته السميكة من رصد اولئك المخالفين مع كثرتهم وتبعثرهم على الطرق الكثيرة ولا كيف وجد الوقت اللازم لتصنيفهم على ذلك النحو الفريد!
ـ وأما الآخر فناشط سياسي مدافع عن حقوق الإنسان (غير الملتحي!) صرح في الفترة عينها حول ما يسمى بـ (حقوق المرأة السياسية) معلنا ان معارضي تلك الحقوق هم اصحاب اللحى! على حد تعبيره، ولست ادري ان كان يقصد ايضا كارل ماركس ولينين وتروتسكي ودستوفوسكي وكاسترو وغيرهم من الشيوعيين الملتحين! والمضحك في هذا التصريح السحباني (نسبة لسحبان وائل خطيب العرب المفوه) انه جاء متزامنا مع زيارة لناشط في حقوق الانسان من بلاد المغرب اسمه (فلان ابو لحية) فتساءلت وقتها: هل سيقابله صاحبنا المذكور أم انه سيؤاخذه بجريرة سخطه على اهل اللحى!
ان المشكلة التي تعاني منها التيارات السياسية ـ بما فيها الإسلامية ـ تكمن في انها لا ترفد سجالها التنظيري بموارد الفكر والثقافة، ولذا فليس غريباً ان يدور الصراع بينها وفق عقلية (عيال الفريج) ـ صبية الحواري ـ حيث تسود الروح العنادية الثأرية، وتغيب الا ما ندر من لغة الخطاب العقلاني المتزن، ليظل المشكل الثقافي هاجسنا المبرح الذي لا يكف عن الترف والألم!