إننا نجد كانط، ومن خلال كتابه "نحو السلام الدائم" يقف عند مفترق طريقين، ويتجاوز ذلك من أجل إيجاد طريق ثالثة، يعيد فيها الاعتبار لماهية السلام وآليات تحقيقه، فهو من جهة يتجاوز النظرة المغالية في المثالية (الطوباوية)، والتي يمثلها أفلاطون، ذلك أن كانط كان أكثر جرأة من هذا الأخير، فهو لم يعمل على تأجيل سعادة البشر إلى ما وراء العوالم، وإنما حاول تجسيدها في عالمهم الواقعي، وهي السعادة التي لا يمكن أن تكون شيئًا آخر غير بلوغ السلام الدائم، وهو من جهة أخرى، يتجاوز سخرية وتشاؤمية بعض الفلاسفة، أمثال "لايبنتز" والذي أكّد أن السلام ليس سوى تصنع ولهو غير مجدٍ لحشد من السذّج.
يبدو أن كانط إنسان مفرط في إنسانيته، فهو يثق في الإنسان ثقة مطلقة، وفي بعده الأخلاقي والعقلي يعوّل عليهما كثيرًا في ضمانة السلام، الأمر الذي يجعل مشكلة السلام -حسبه- مشكلة أخلاقية، ذلك أن الأمل في سلام دائم وأبدي يسود العالم، ويستمر بصورة لانهائية مرهون كله بالتربية الأخلاقية، هذا من جهة، ومن أجل تكوين العقل النقدي؛ أي العقل الراشد المستنير، من جهة أخرى، على اعتبار أن تشريع السلام الدائم يقتضي الاحتكام إلى سلطان العقل، وأن تعيين هذا السلام هدف إنسانيّ نبيل يوجب-علاوة على ذلك- الإقرار بأخلاقيات التواصل بين الشعوب والدول حتى في حالة الحرب.
يعرض كانط مشروعه -السلام الدائم- وفق إستراتيجية العقلانية الكونية التي تزدري كل ما هو جزئي ومتغير، وتبحث عن منطلق يتجه نحو الشمولية، ولعل الدليل على ذلك من وجهة النظر الفيلولوجية هو عنوان الكتاب في حدّ ذاته "نحو السلام الدائم".
إن السلام الدائم هو الحافز الوحيد في بلوغ السياسة الكونية، وما يتبعها من مفاهيم إنسانية (مواطنة كوسموسياسية، قوانين سياسية، تاريخ عالمي، مجتمع عالمي أخلاقي... إلخ)، والحقيقة أن مفهوم السلام الدائم لا يتعلق بفكر يخص حضارة دون غيرها، أو قسمًا من الإنسانية دون غيره، فلا يعني السلام الدائم ما تقرّه أطروحات الفكر الغربي من مواثيق ودساتير-والتي ينتهكها هو قبل أي كان- لا يعني ذلك أن المساهمة في السلام تُطرح -في نظرنا- طرحًا خاطئًا عندما نقيسها على مساهمات الغرب فحسب،وكيف لا؟ وهو الذي ينتج نقيضه (الحرب)، وإنما المقصود هنا بالسلام شكل من أشكال الحقيقة، وهو لا يحيل لأي معنى عرقي أو جغرافي أو قومي، إن السلام الدائم المقصود هنا لا هوية له، وربما هو ما يتجاوز كل هوية، فليس هناك معاهدة أو سلم أصيل، كل ما هناك هو كيفيات أصيلة للمشاركة في إرساء السلام الدائم، لذلك فإن كل سؤال فلسفي لا مفر له اليوم من أن يجد نفسه منخرطًا في إطار كيفية الحفاظ على النوع البشري-الإنساني، ولابد من أن يُطرح على الفكر بما هو فكر إنسانيّ كونيّ.
إن السلام يجب أن يرتبط بالبعد الإنساني وبروح المواطنة؛ من أجل تكريس القيم الديمقراطية السامية، على اعتبار هذه الأخيرة كقيمة عالمية-كونية لا يمكن لها أن تقوم إلا في ظل سلام عالمي؛ لأن القضاء على السلام يعني القضاء على الديمقراطية.
إننا إذن مطالبون للمساهمة في السلام الدائم، بيد أن هذه المساهمة لن تتأتى إلا لمن يقول بفكر شمولي-كوني، ويتعالى عن الاختلافات اللغوية والفروق الحضارية والسياسية والأيديولوجية، وفي هذا السياق نجد كانط يثق ثقة مطلقة في الإنسان، على اعتبار النظرة العقلانية لضرورة السلام، والتي ستؤدي -لامحالة- إلى ربط الممارسة السياسية بالبعد الأخلاقي، ذلك أن العقل العملي (الأخلاقي) يستشرف الخطر الذي لا مهادنة فيه قائلا: "يجب أن لا تقوم حرب البتة، لا بينك وبيني في الحالة الطبيعية، ولا بيننا كدولٍ مبنية داخليا"، هذا السلام الذي أفعل ما يكون في إنهاء الحرب القذرة، والتي ما فتئت جميع الدول من دون استثناء -حتى الآن- تحشد مؤسساتها الداخلية تجاهها، كما لو كانت هي الغاية الأسمى، وإذا كان السلام يظل بالنسبة إلينا مجرد أمنية غالية، فعلى الأقل لن نخطئ قط إذا اتخذنا كمبدأ لنا أن نصبو إليه دون كلل؛ لأن هذا هو الواجب.
لقد ظهر كتاب كانط "نحو السلام الدائم" سنة (1795)؛ أي قبل كتابه "المبادئ الأولى الميتافيزيقية لنظرية القانون"، وقد صاغ كانط هذا الكتاب على هيئة المعاهدات الدبلوماسية، ويتألف من الأقسام الآتية:
1- ست مواد تمهيدية: تصوغ الشروط السلبية للسلام.
2- ثلاث مواد نهائية: تصوغ الشروط الإيجابية العامة: الداخلية والخارجية الدولية، لقانون السلام.
3- ملحق أول: يبحث فيه كانط من الناحية الفيزيائية والمادية المحضة في الطبيعة بوصفها ضمان السلام.
4- ملحق ثانٍ: يدعو فيه كانط إلى إعطاء الفلاسفة في تنوير الدولة والحاكمين فيما يتعلق بالأمور السياسية.
5- العلاقة بين الأخلاق والسياسة.
إن نصوص الكتاب (نحو السلام الدائم) تتقدم في شكل معاهدة سلام تنتظر التوقيع من الذين سيلتزمون باحترامها، وهو يبدأ "بمواد تمهيدية" تحدّد مجموعة من الشروط بحيث لا يمكن تصور مشروع السلام من دونها، وهناك ميزة أساسية تتمثل في الحذر من كل ما يجعل الثقة المتبادلة مستحيلة، ثم يأتي حينئذ نص المعاهدة المتمثل في "المواد النهائية"، والتي عددها ثلاث؛ يلتزم الموقعون بترقية الدستور الجمهوري في دولهم الخاصة بالدخول في فيدرالية للدول حرة، مؤسسة لحق الشعوب، وبسنّ قانون عالمي محدّد بإكرام عالمي (Hospitalité) -ضيافة كونية-، وتنتهي المعاهدة بتذييلين يتعلق كلاهما بما يؤكد إمكانية دوام السلام، يخص الأول ما يضمن السلام، والذي ذهب في اتجاه ما قرره كتابه السابق "تاريخ كونيّ من وجهة نظر عالمية"، كما يضيف في طبعة لاحقة للكتيب ملحقًا خاصًا بالعلاقة بين السياسة والأخلاق.
إن كانط نفسه يعتبر كتاب السلام الدائم -وبالرغم من صغر حجمه- بمثابة التطبيق العقلي للنظرية السياسية، والتي وضعها في كتابه الشهير "الأصول الفلسفية لنظرية الحق"، ولقد عبّر عن هذا أبلغ تعبير في خاتمة الكتاب المذكور الذي صدر سنة (1797)؛ أي سنتين قبل وفاته.
لقد أكد كانط على ضرورة بلوغ السلام الدائم، وبالرغم من تشابك وتعقد الآليات التي تضمنه، سواء ما تعلق منها بالبعد الأخلاقي أو العقلي، فإنّ كانط يكون بذلك قد فتح قارة جديدة، وهي قارة الإنسانية التواصلية، على اعتبار أن مشكلات الإنسان يمكن حلها برجوع القهقرى إلى طبيعة الإنسان الخيّرة، والتي تنشد النبل والخير.
إن هذه الثقة المفرطة في إنسانية الإنسان، والأمل الكبير في تخليص البشرية من عنائها الأكبر -ألا وهو الحرب والصراع- تجعل من كانط يقف في وجه أطروحات الفلاسفة والمفكرين الذين أرادوا تكريس الفكر التراتبي، والرؤية المركزية، والبعد الأيديولوجي، بدءًا من فلسفة "لايبنتز" و"نيتشه" التي أقرّت بأن حالة السّلم هي دائمًا خطوة جديدة نحو حرب آتية لامحالة، وصولاً إلى أطروحات المعاصرين، أمثال: "صموئيل هيدينغتون" و"فوكو ياما"، والتي حملت رؤية سوداوية عن التاريخ الإنساني ومصيره أيضا.
لقد آن لنا الأوان لكي نميّز بين فيلسوف الإنسانية قاطبة، أو على حد تصنيف كارل ياسبيرز " فلاسفة إنسانيين"، وفي هذا الصف يقف كانط، والذي يحمل همّ الإنسان بما هو إنسان، وبين المشرّع السياسي-المؤدلج الذي يبرّر الحرب والغزو والاجتياح العسكري.
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: هبة البشير