تعلمنا من أساتذتنا خلال الدراسة الأكاديمية لحقل الإستراتيجية، أن الدول ذات الإستراتيجيات العظمى تسعى إلى تحقيق أهدافها بشتى الوسائل، وهذه الوسائل ناتجة عن إمكانية موظفة نتج عنها قدرة تمكنها من لعب دور لكي تبحث عن مكانة لها لتحقيق أهدافها، بمعنى أن الدور الذي تريد أن تلعبه دولة ما في النظام الإقليمي المحيط بها أو النظام الدولي (العالمي) هو نتاج لتسخير واستغلال الموارد المتاحة، والعمل على توظيف الموارد غير المستغلة بما يؤهلها إلى أن تصنع لنفسها دورًا نتج عن توظيف إمكانياتها للبحث عن مكانة في النظام الإقليمي أو الدولي، من خلال السعي الدؤوب لتحقيق الأهداف المرسومة إستراتيجيّا، وهذه الأهداف يكون لها صلاحية ومدة معينة وهي تسمى بـ (صلاحية الأهداف) أي المدة المحددة لإنجاز الهدف، وفقا لعملية تخطيطية لبيئة الهدف الإستراتيجي، وبالطبع عملية التخطيط الإستراتيجي للأهداف مسبوقة بعملية تحليل بيئة الهدف الإستراتيجي الداخلية والخارجية، أي الاطلاع على كافة الفرص والتهديدات وتشخيص نقاط القوة والضعف في هذه البيئة، والأخذ بعين الاعتبار كافة المتغيرات التي من الممكن أن تؤثر في أداء الهدف الإستراتيجي، لكي يكون الفعل الإستراتيجي ذو كفاءة عالية ومردود يتناسب مع ما وُظف له من إمكانيات لغرض النجاح الإستراتيجي، هذا من جانب، أما من جانب أخر هناك خطورة على أي هدف يُعلن، وهذه الخطورة تعني عدم تحقيقه في المدة المحددة وبالتالي حدوث تشوه أو انحراف إستراتيجي في معالم الهدف، ويُعزى هذا التشوه أو الانحراف عن المسار المرسوم له هو نتيجة لضعف الرؤية المستقبلية التخطيطية لظروف البيئة الإستراتيجية المراد توجيه الهدف نحوها، وكذلك عدم تقسيم الهدف الإستراتيجي إلى مراحل، والتي تدعى "الأهداف التكتيكية" المرحلية التي هي بمثابة سلسلة متصلة مع بعضها بحيث لا يمكن الانتقال من هدف مرحلي إلى آخر دون نجاح الهدف الأول، وقيمة هذا النجاح تبنى على أساسها بداية الهدف المرحلي الثاني الذي يعتمد على معطيات نجاح الهدف المرحلي الأول، أي أن النتائج التي كانت متوقعة لن تتحقق بسبب عدم نجاح الأهداف المرحلية التكتيكية بشكل متتابع، وأيضا ضعف في المساحات الذهنية للمخطط الإستراتيجي وعدم شموله لكافة المتغيرات التي من الممكن أن تجعل من الهدف بمثابة مستنقع تغرق فيه عقول المفكرين الإستراتيجيين.
إن كل ما سبق يمكن اعتباره إطارًا نظريًّا للدخول إلى الإطار العملي التطبيقي، وهو تقييم العمليات العسكرية للناتو على ليبيا. منذ أكثر من 100 يوم والعمليات العسكرية مستمرة على ليبيا من قبل قوات حلف شمال الأطلسي، ولكن هناك ملاحظة هامة يجب أن نذكرها، هل الناتو فشل فعلاً في هذه العملية؟ ومن وراء هذا الفشل؟ وما هي أسباب هذا الفشل؟ للاجابة على هذه التساؤلات ينبغي لنا أن نقول أن حلف الناتو ومنذ نشأته أخذ الطابع المؤسساتي في عمله، بمعنى أن للناتو مجالس عديدة تقوم بعمليات التخطيط الإستراتيجي وعمليات صناعة الأهداف الإستراتيجية واتخاذ القرارات الإستراتيجية. وإذا ما قمنا بتحديد الهدف الإستراتيجي بعيد المدى للناتو من العمليات العسكرية على ليبيا لوجدنا أن الهدف الإستراتيجي بعيد المدى هو السيطرة على مقدرات وموارد ليبيا الإستراتيجية من نفط وغاز ومعادن أخرى، وكذلك جعل موطئ قدم للأوربيين في منطقة شمال أفريقيا للانطلاق إلى أفريقيا من جديد في ظل ضعف النفوذ الأوروبي الحاصل منذ عقد من الزمان، بفعل التنافس الأمريكي-الصيني الأوروبي على هذه القارة، هذا ناهيك عن الموقع الجيو-إستراتيجي الليبي وطول الساحل البحري، والذي يؤهل ليبيا لأن تكون مستعمرة أوروبية جديدة للنقل البحري من وإلى أفريقيا من خلال بناء موانئ عملاقة على طول الساحل الليبي، وكذلك تأمين الطرق الجوية الأوروبية من وإلى أفريقيا واعتبار ليبيا محطة للاستراحة الأوروبية وكذلك القرب الجغرافي الأوروبي الليبي، الأمر الذي شجع الأوروبين للقيام بهذه العملية العسكرية.
هذا من جانب، أما من جانب آخر فإنا إذا ما قمنا بتحديد الهدف المرحلي التكتيكي المعلن للناتو في هذه العمليات، لوجدنا أن الهدف هو إسقاط نظام العقيد القذافي القمعي، وبالتالي يؤسس هذا الهدف المرحلي الأول الهدف المرحلي الثاني وهو تشكيل حكومة ليبية انتقالية جديدة مدعومة كليا من قبل الأوروبيين، والهدف المرحلي الثالث هو استغلال الوضع الانتقالي الليبي وتوقيع اتفاقيات إستراتيجية بعيدة المدى بين الأوروبين والحكومة الليبية الجديدة التي شكلت تحت الرعاية الأوروبية. ولكن بالعودة إلى الهدف المرحلي الأول، نلاحظ الفشل الواضح والعلني في هذا الهدف التكتيكي الأولي من خلال تجاوز المدة المحددة إستراتيجيًا لإنجاز هذا الهدف، بمعنى أن الهدف الإستراتيجي المرحلي تعرض للتشظي والانحراف عن مساره، هذا الانحراف أدى إلى حدوث خلل في المنظومة الإستراتيجية الفكرية العقائدية للناتو، أي أن الهدف تعرض إلى تشويه في طريقة الأداء والفعل الإستراتيجي، الأمر الذي دفع الناتو إلى أن يعيد ترتيب أوراقه من جديد لكي يدخل إلى اللعبة الإستراتيجية مجددًا بأوراق لعب جديدة. هذا ما لاحظناه من خلال الوساطات والمساعي الحميدة الأفريقية المقدمة من قبل أصدقاء العقيد القذاقي والتي أتت بتوجيه أوروبي لكي تستطيع أن تخرج نفسها من هذا المأزق الإستراتيجي الذي لم تحسب كلفته جيدا. وأنا متأكد جيدا من أن الأوروبين بعد الخروج من هذا المأزق سوف يقومون بإعادة مراجعة إستراتيجيتهم الموحدة، وسوف تجرى تعديلات جوهرية على العقيدة الفكرية للناتو وهذا كله طبعا بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد كل هذا وذاك نستطيع أن نقول أن العمليات العسكرية التي قامت بها قوات الناتو فشلت إستراتيجيا؛ وذلك لأنها أصلا لم تستطع الانتقال من الهدف المرحلي الأوليّ التكتيكي إلى الهدف المرحلي الثاني، بالتالي فإن هذه العمليات أصيبت بفشل ذريع، خصوصًا بعد سحب الولايات المتحدة لمقاتلاتها الجوية ومعدات الدعم اللوجستي، وتركت الأوروبيين بقيادة فرنسا وإيطاليا (مع التحفظ الكبير من قبل برلسكوني) في الفضاء الليبي، مع دعم طفيف جدًّا من قبل باقي الدول ومن بينها دول عربية كقطر والإمارات بسبب توقيع اتفاقيات إستراتيجية للتعاون المشترك بين هذه الدول والناتو، وبالتالي يحتم عليها الاشتراك بهذه العمليات إن طلب منها.
وإذا ما أردنا أن نحدد أسباب هذا الفشل فنستطيع القول أن العمليات العسكرية في ليبيا فشلت لعدة أمور: أولها ضعف الرؤية المستقبلية التخطيطية للناتو حول وضعية التدخل العسكري في ليبيا وعدم القراءة الصحيحة للأوضاع بكافة متغيراتها الجيو-إستراتيجية والحيوية للمنطقة، وذلك لأن العمليات في ليبيا كان لها فترة محددة، وفي اعتقادي أنها تجاوزت المرحلة المحددة لها بسبب المقاومة الشديدة غير المتوقعة من مرتزقة القذافي والقتال الشرس على الأرض بين الثوار وكتائب القذافي، وأيضا أن اقتصار عمليات الناتو على القصف الجوي والقصف من حاملات الطائرات الموجودة في البحر المتوسط، الأمر الذي أدى إلى انحسار دور الأوروبي ووصوله إلى طريق شبه مسدود في هذه المهمة التي وقعت فيها -في رأيي الشخصي- نتيجة فخ أمريكي للأوربيين، حيث أن هذه العمليات بدأت بعد إعطاء الضوء الأخضر للناتو من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة بقرار دولي من مجلس الأمن، والذي ينص على أن هذه العمليات تقتصر على القصف الجوي لمعاقل أنصار العقيد القذافي وأيضا حماية الثوار، على أن لا يتطور الأمر إلى حرب برية على الأراضي الليبية. والذي أفهمه من هذا الكلام أن محدودية العمليات بقرار دولي (أمريكي) كانت بمثابة فخ نصب لأوروبا من قبل حلفائها المنافسين لها والمتصارعين معها في الخفاء (وهم الأمريكان)، حيث أرادت بذلك الولايات المتحدة أن تبين للأوروبيين أنهم يحتاجون إلى الكثير من العمل الشاق والوقت الطويل لكي يلعبوا دورا مستقلا عن الولايات المتحدة، وأن تبين لأوروبا أن العمليات العسكرية باهظة الثمن، وأن الولايات المتحدة مستاءة جدا من الأوروبيين لأنهم دائما ما كانوا يأتون لكي يتقاسموا الغنائم مع الأمريكيين دون جهد يذكر للأوربيين، وهذا يعني أن أوروبا شربت من كأس الخسارة الذي شربت منه الولايات المتحدة الأمريكية في الكثير من عملياتها، وقد ذكر مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبيغينيو برجنسكي أن الأوربيين يلزمهم الكثير من العمل والوقت لكي يستطيعوا أن يخططوا لأنفسهم طريقًا مستقلاً عن الولايات المتحدة، وعلى أوروبا أن تعلم بهذه الفترة والفترة القادمة أنها لا تستطيع أن تحقق وحدة سيو-عسكرية (سياسية عسكرية) أي قرارات عسكرية بوحدة سياسية، على الرغم من تحقيقها الوحدة الاقتصادية والسياسية من خلال الاتحاد الأوروبي، هذا من جانب ومن جانب آخر يعاب على الأوروبيين في هذه العملية ضعف التخطيط الإستراتيجي وعدم الأخذ بعين الاعتبار الكثير من العوامل والمتغيرات حول هذه العملية، ومن بينها بروز أصوات من داخل الناتو تدعو إلى إيقاف العمليات العسكرية لأسباب تدعي أنها إنسانية، وهذا ناهيك عن التكاليف العالية التي تنفقها أوروبا على هذه العمليات خصوصًا وأن أوروبا تمر الآن بأزمة مالية شديدة تهدد الاقتصاد الأوروبي خصوصا في اليونان وأسبانيا. وأخيرا أقول أن هذه العمليات منيت بالفشل الذريع، وأوروبا الآن تبحث عن خرم إبرة لكي تخرج من هذا المأزق الكبير في ظل مطالبات داخلية وانشقاقات أوروبية في صفوف القوة القائدة لهذه العمليات والداعية إلى إيقاف نزيف الأموال؛ لأن أوروبا الآن تمر بفترة حرجة ودول اتحادها بحاجة إلى هذه الأموال للخروج من النفق المظلم عسكريّا واقتصاديّا ومعنويّا، ولكي تعيد لملمة أوراقها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وإذا ما أرت أن أقدم نصيحة للأوروبيين حول آلية الخروج من هذا المأزق، فأقول على أوروبا أن تذهب إلى الأمم المتحدة من جديد (الولايات المتحدة) وتطلب وتلح لتصدر قرارًا بوقف العمليات العسكرية للناتو على ليبيا، وتزين هذا القرار ببعض الأمور التي تعودنا أن نسمعها كثيرًا، كالحفاظ على حقوق الانسان، والخوف من كارثة إنسانية، وأيضًا الخوف على المدنيين العزل الذي يستغلهم نظام العقيد القذافي، من خلال وضع الكتائب القذافي لمعداتهم العسكرية الثقيلة داخل الأحياء المدنية، وبالتالي الأمر الذي يصعب المهمة على الناتو فيضطر إلى وقف العمليات، والغاية من كل ذلك هو حفظ ماء الوجه الأوروبي أمام العالم، وأيضا إعلان وقف العمليات بقرار دولي، الأمر الذي يعني التزام الأوربيين بكل المواثيق والقرارات الدولية، وعدم خروجها عن ما تصدره المنظمة الدولية من قرارات.
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: هبة البشير